توسعت رقعة الأبنية السكنية في أرياف حلب الشمالية والشرقية، الخارجة عن سيطرة قوات النظام، نتيجة الكثافة السكانية التي شهدتها خلال الأعوام الخمسة الماضية بعد طرد تنظيم الدولة من المنطقة، والهدوء النسبي الذي نعمت به مقارنة بغيرها من المناطق السورية التي هجر سكانها نتيجة القصف المتكرر وسيطرة قوات النظام على مساحات واسعة من المناطق التي كانت تحت سيطرة فصائل المعارضة السورية.
وإن كانت محافظة إدلب تستقبل العدد الأكبر من النازحين، إذ يزيد عدد سكانها عن أربعة ملايين شخص، وتحوي أزيد من ألف ومئتي مخيم، إلا أنها لم تشهد حركة عمرانية يمكن مقارنتها بتلك التي نشأت في أرياف حلب الشرقية والشمالية خلال العامين الماضيين، وذلك لأسباب تتعلق بعدم الاستقرار وانعدام الأمن، خاصة مع المعارك المفتوحة التي يخوضها النظام في إدلب، والتي أدت إلى موجات نزوح كبيرة كان آخرها بداية العام 2020، وضيق المساحة المتبقية وسيطرة هيئة تحرير الشام على المنطقة، إضافة للحضور التركي الضعيف في هذه المنطقة مقارنة بأرياف حلب، الخاضعة بشكل مباشر للإدارة التركية، خاصة فيما يتعلق بالخدمات والمرافق العامة.
نظرة عامة
تحوي أرياف حلب الخارجة عن سيطرة النظام، والتي يطلق عليها اصطلاحاً اسم «مناطق درع الفرات»، نسبة للعملية العسكرية التي أطلقتها الفصائل العسكرية بدعم تركي لطرد تنظيم داعش، نحو مليوني شخص يتوزعون في تسع مدن رئيسية والقرى والبلدات التابعة لها.
ويبلغ عدد المجالس المحلية في المنطقة عشرة مجالس، يتبع لكل منها مجالس صغيرة تتلقى الدعم منها، وتشرف الحكومة التركية عليها بشكل شبه كامل، وتدفع رواتب موظفيها.
وتتولى إدارة الطوارئ والكوارث التركية (آفاد) مسؤولية الإشراف على العمل الإنساني والإغاثي في المنطقة، وتشرف على عمل المنظمات الأخرى؛ كما تنتدب الحكومة التركية ممثلاً عنها في كل مجلس ويحمل صفة «مساعد والي»، وتتبع المنطقة إدارياً لولايتي غازي عنتاب وكلّس التركيتين، بحسب تقرير لمركز عمران للدراسات الاستراتيجية.
أنشئت في المنطقة ثلاثة معابر حدودية مع تركيا في كل من اعزاز والراعي وجرابلس. وسمحت تركيا لشركاتها بالاستثمار داخل المنطقة، فأدخلت الكهرباء والاتصالات، وسهلت دخول المواد الغذائية والألبسة ومواد البناء، إضافة لتسلمها مقاليد الأمور في قطاعات التعليم والصحة، وسيطرتها على القرار الأمني والعسكري للفصائل، ما حقق استقراراً على الصعيد الخدمي والحياتي، إضافة للأمان، الذي جذب الكثير من النازحين للاستقرار في هذه المناطق، إذ ارتفع عدد السكان فيها من أربعمائة ألف قبل العام 2011، إلى مليوني شخص في العام 2020.
أسباب التوسع العمراني
تقدر دراسة مركز عمران عدد القاطنين في مخيمات أرياف حلب بنحو مئتين وخمسين ألف شخص. وزادت هذه الأرقام وتناقصت خلال العامين الماضيين تبعاً لحركات النزوح والسكن المؤقت، قبل التحول إلى مشاريع المخيمات الاسمنتية، والتي نفذتها عدد من المنظمات خلال العامين الماضيين، مثل جمعية عطاء وفريق ملهم التطوعي وغيرها من الجمعيات.
وقبل الدخول في التوسع العمراني، لا بد من المرور على الواقع العمراني لهذه المنطقة في الأعوام السابقة للثورة، إذ أن الكتلة السكانية الأكبر فيها تتركز على الشريط الحدودي مع تركيا، والتي خضعت عقاراتها وأراضيها قبل صدور المرسوم 43 للعام 2011، إلى نظام الترخيص المسبق والذي فرض منذ صدور القرار 41 في العام 1941 الحصول على رخصة مسبقة لإنشاء أو نقل أو تعديل أي حق من الحقوق العينية العقارية على الأراضي المجاورة للحدود السورية، وأعطى المحافظة سلطة منح الرخص المسبقة. حُددت هذه المناطق، بموجب المرسوم رقم 2028 لعام 1956، بعمق 25 كيلو متراً على طول الحدود السورية التركية.
استثنى المرسوم 43 المناطق الواقعة داخل المخطط التنظيمي للمدن فقط، وأبقى على قرار المنع في المناطق خارج المخططات التنظيمية.
يشمل هذا القرار تجمعات سكانية رئيسية في أرياف حلب مثل اعزاز وأخترين ومارع والراعي وجرابلس والقرى والبلدات التابعة لها، ما حال، قبل بداية الثورة، من إمكانية توسعها العمراني ونشاط حركة الاستثمار العقاري داخلها.
شكلت الزيادة السكانية التي شهدتها المنطقة خلال الأعوام الخمسة الماضية ضرورة ملحّة للتوسع العمراني، خاصة في ظل قلة عدد المساكن الذي قيدته القوانين السابقة من جهة، وطبيعة المنطقة التي تكاد تخلو من الأبنية الشاقولية من جهة أخرى، ما فرض تحدياً جديداً لتأمين مأوى للنازحين والمهجرين الذين قصدوا المنطقة، وغياب مشاريع الاحتواء السكاني ضمن مخيمات في هذه المناطق.كذلك، كان للإيجارات المرتفعة في المنطقة والتنافس للحصول على منازل مستأجرة، رغم غلاء بدلات الإيجار، دور في زيادة الاستثمار العقاري.
يفسَّر ذلك بطول مدة النزوح التي أجبرت سكان المخيمات والقرى والبلدات البعيدة على الخروج منها للبحث عن فرص عمل داخل المدن الرئيسة، إضافة لموظفي المنظمات الإنسانية والعاملين في القطاعات الخدمية وتركز عملهم داخلها، إذ يتقاضى هؤلاء رواتبهم بالليرة التركية أو الدولار.
ويبلغ متوسط سعر الإيجار في المدن الرئيسة نحو 75 دولار، تصل أحياناً إلى أزيد من مئتي دولار، وهو ما يفوق متوسط دخل المواطن في إدلب بنحو ثلاثة أضعاف تقريباً، وفي مناطق النظام بنحو خمسة أضعاف، ويتقارب من حيث السعر مع المدن الحدودية التركية.
يضاف إلى ذلك استثمار السوريين اللاجئين في تركيا لقسم من أموالهم في أرياف حلب، باعتبارها امتداداً لوجودهم في تركيا والاستقرار الذي تشهده، وغالباً ما يكون هذا الاستثمار في العقارات والأراضي، الاستثمار الأكثر استقراراً من وجهة نظرهم.
ومع بداية الحركة العمرانية نشأت جمعيات وشركات عقارية ومتعهدو بناء ساهموا بتنشيط التوسع العمراني، خاصة في ظروف البيع بالقسط.
جمعيات ومتعهدو بناء
أول هذه المجمعات كانت ضاحية قباسين السكنية، والتي أعلن عنها في العام 2017، لتبدأ خطواتها التنفيذية في العام التالي، بعد توقيع مذكرة تفاهم بين المجلس المحلي في مدينة قباسين وشركة جوك ترك التركية، وكان من المقرر بناء 225 شقة سكنية وثلاثين محلاً تجارياً داخلها، بمساحات مختلفة، وبأقساط شهرية، وقُدّر سعر المتر المربع فيها بنحو 155 دولاراً.
بتتبع بناء الضاحية المُقرر إنهاؤها خلال خمسة عشر شهراً، والتي بنيت على أملاك عامة تعود للمجلس المحلي في قباسين، وجدنا أن آخر ظهور لها في صفحة المجلس كان في تموز من العام 2019.
قبلها بشهر واحد، كان المجلس قد أعلن عن الانتهاء من بناء الطوابق الأرضية فقط في ثلاثة كتل سكنية، مشيراً في إعلانه إلى أن باب الاستكتاب ما يزال مفتوحاً.لم تكن البداية مشجعة بالنظر إلى عدد الشقق السكنية في الضاحية وتأخر الاستكتاب عليها، ويعود ذلك لعوامل كثيرة، بحسب من تحدثنا معهم، منها ارتفاع الأسعار والخوف من البناء على أراض الملكية العامة، إضافة لذاكرة السوريين المريرة مع الجمعيات السكنية قبل العام 2011.
في المقابل، نشطت حركة التوسع العمراني من قبل شركات خاصة ومتعهدي بناء، كان لهم الدور الأكبر في تنفيذ عشرات المشاريع السكنية في المنطقة، من بينها كتل سكنية كبيرة، أو أبنية منفردة داخل المخططات التنظيمية أو خارجها.
قسم من هذه الشركات مرخص في تركيا، مثل شركة إعمار سوريا والتي شيدت العشرات من الأبنية السكنية، منها مجمع اعزاز السكني على المتحلق الجنوبي جنوب شرق مدينة اعزاز، والذي يتألف من 22 وحدة سكنية؛ وشركة حمشو للإنشاءات، وآخر مشاريعها كان مجمع حمشو الذي يتألف من 141 شقة، 75 منها جاهزة و 66 قيد الإنشاء؛ إضافة لمتعهدي البناء والمهجرين الذين قاموا بالاتفاق فيما بينهم لبناء كتل سكنية تجمعهم معاً في مكان واحد.
يشترط على الجمعيات الترخيص ضمن مجلس محافظة حلب، لكن أحد الموظفين في المحافظة أجابنا بأنه لا وجود لأي جمعية سكنية مرخصة حتى الآن سوى جمعية تتبع لنقابة المحامين قامت بطلب الترخيص.
ويقول عمر طيجان، وهو محامي وأحد الذين اشتروا شقة حديثاً في إعزاز، إن الجمعيات السكنية تحتاج لترخيص من مجلس المحافظة والمجالس المحلية، بينما يحتاج البناء لرخصة من البلدية والمجلس المحلي، وأن هناك مجالس تقبل نقل الملكيات إلى اسم الجمعيات، ويقوم رئيس الجمعية بنقل الملكية للمشتري فيما بعد، في حين لا تقبل مجالس أخرى نقل هذه الملكيات.
وعن تجربته، يضيف طيجان، أن العقار يجب أن يكون مملوكاً ومسجلاً في السجل العقاري أو بموجب حكم محكمة، لنقل الحصة السهمية إلى المشتري بعد إصدار حكم من المحكمة بشقة موصوفة، يتم الكشف عليها من قبل قاض ومهندس.لا إحصاء دقيق لعدد الأبنية الجديدة، يقول من تحدثنا معهم، ومنهم تجار بناء وسكان من أبناء المنطقة، إن نظرة واحدة إلى المكان تكفي لإدراك حجم التوسع العمراني في المنطقة، خاصة خارج المخططات التنظيمية وعلى الأراضي الزراعية المجاورة للتجمعات السكانية الرئيسية.
يؤكد ذلك محمد بشير، وهو مهندس في بلدية إعزاز، إذ قال إنه من الصعب الوصول لإحصائية دقيقة، لكنه زودنا بإحصائية عن الأبنية السكنية المرخصة داخل المخطط التنظيمي في المدينة والتي قدرها بـ 136 بناية سكنية، و13 بناء تجارياً يحوي أسواقاً طابقية ومولات تجارية وشركات. أما خارج المخطط التنظيمي فلا يوجد أي إحصائية تدل على العدد، ما يعني عدم ترخيصها من قبل البلدية.
في مدينة الباب شرقي حلب، وبحسب أحد الموظفين في البلدية، فإن المجلس المحلي منح في السنتين الأخيرتين رخصة لبناء 168 بناية سكنية داخل المخطط التنظيمي، إضافة لثلاثة مباني خاصة بمهجري الغوطة كل منها يحوي خمسة طوابق، وفي كل طابق خمس شقق، واثنتان قيد الإنشاء، إضافة لستة مباني تجارية ضمن محور السوق (مولات ومحلات تجارية)، يحوي كل مبنى عبّارة.
ويضيف الموظف إن جميع التراخيص كانت ضمن المخطط التنظيمي القديم، وخارج المخطط على محور المحلق، وأن التوسع العمراني جاء نتيجة لحركات النزوح والتهجير، ومعظم الرخص مُنحت خلال السنتين الأخيرتين.
تراخيص دون شروط
يقول حسين قز، أحد المهجرين إلى مدينة الباب، إنه اشترى مع مهجرين آخرين أرضاً طرفية خارج المدينة سُجّلت باسم أحدهم، ثم قام بعد بنائها بنقل ملكية حصة كل فرد من المشاركين، وأن المجلس المحلي في المدينة لم يلزمهم بأي شروط ولم يكن له أي دور في عملية البناء أو الكشف أو الشكل الخارجي، وإن كل فرد من الأفراد قام بالبناء بحسب إمكانياته وبالطريقة التي يراها مناسبة، لكنهم راعوا القوانين العامة من حيث الشوارع والصرف الصحي.
ويقول ياسر كور، وهو متعهد بناء، إن المجالس لا تتدخل في عملية البناء ولا شروط للترخيص، وأن معظم الأبنية ملاصقة لبعضها البعض، ولا يراعى فيها متانة الأساسات إلا من قبل المتعهدين أنفسهم. وقدر المبلغ الذي يتم دفعه مقابل الرخصة للمجلس المحلي بين ألفين إلى أربعة آلاف ليرة سورية، فيما يبلغ سعر متر البناء مع الإكساء نحو 125 دولاراً.
يشرح المهندس محمد بشير كلفة رخصة البناء بقوله إن الرخص للبناء في اعزاز لا تتجاوز الطوابق الخمسة، ويدفع طالب الترخيص ثمان ليرات تركية عن كل متر مربع في الطابق الأول، وسبع ليرات في الثاني وثلاث ليرات عن الطوابق العليا، وأن هذه الرخص تمنح فقط داخل المخطط التنظيمي، أما خارجه فلا تمنح البلدية أي تراخيص للبناء.
ويقول المهندس عبد الحميد الحميدي، عضو نقابة المهندسين في الشمال السوري، إن عدة تحديات تواجه التخطيط العمراني في المنطقة، أولها عدم الاستقرار الذي ينعكس مباشرة على النموذج المطلوب في البناء من حيث المساحة والخدمات المطلوبة، ما يجعل الوصف الأمثل لهذه الأبنية بالبيوت شبه المؤقتة، يحاول أصحابها التقليل من كلفتها قدر المستطاع نتيجة غياب شعورهم بالاستمرار والديمومة في المكان.
ويرى الحميدي أن هذا التوسع شكل طفرة في مراكز المدن الرئيسية، ما أدى إلى قضم المساحات الزراعية المحيطة بها، ما أسهم في تراجع إنتاج المحاصيل الزراعية وفقدان المنطقة، التي كانت تمثل سلة غلال في الماضي، لأمنها الغذائي ومساحتها الخضراء.
ويكمن التحدي الأكبر، بحسب الحميدي، في الإشكال القانوني الإداري، إذ يغيب التوسع في المخططات التنظيمية، ما دفع لظهور عشوائيات حول مراكز المدن والنواحي، و«سواء داخل المخطط أو في المناطق العشوائية، لا يوجد تعاون بين المجالس المحلية ونقابة المهندسين للحد، ولو جزئياً، من ظاهرة الفوضى في التوسع العمراني، والتحقق من شروط السلامة في الأبنية المشادة».
تختلف شروط الترخيص بين مجلس محلي وآخر، حسب الحميدي، ففي منطقة إعزاز لا يطالب الراغبون بالترخيص بمخططات هندسية نظامية مصدقة من نقابة المهندسين.
فقط في مدينة اعزاز نفسها يطالب صاحب الترخيص بمخطط هندسي من مهندس مسجل في النقابة دون تصديق النقابة نفسها، ودون اشتراط وجود ختم تصديق النقابة الذي يؤكد سلامة المخططات والتزامها بالشروط الفنية. أما في مدينة الباب فيطالب صاحب الترخيص بمخططات مصدقة من نقابة المهندسين في المدينة.
يتسم التوسع العمراني الجديد بالفوضى وغياب التنظيم والشروط الفنية، خاصة خارج المخططات التنظيمية التي لا تخضع لأي رقابة أو شروط.
ويلتزم متعهدو البناء الشكل التركي في الكسوة الداخلية للشقق السكنية الجديدة. يقول من تحدثنا معهم إن هناك تغيراً في طبيعة المنطقة وهويتها، سواء على صعيد الإكساء الخارجي أو الداخلي، إضافة لغياب المساحات الخضراء، مؤكدين أن غياب الجمعيات السكنية المرخصة أحد أهم الأسباب في هذه الفوضى، إذ تراعي الجمعيات وجود مساحات خضراء وحدائق ومدارس داخل تجمعاتها السكنية، ويطالبون المجالس المحلية بتطبيق شروط السلامة والالتزام بالمعايير الفنية لهذه الأبنية بالتعاون مع نقابات المهندسين، وتجنب قضم المساحات الزراعية المهددة بالاعتماد على الأبنية الشاقولية وتنظيم المباني العشوائية.
مصطفى ابو شمس _ الجمهورية نت