دأبت المنظمات النسوية منذ بداية القرن تقريباً على العمل على الدفاع عن حقوق المرأة ومحاولة تحصيلها وحمايتها، ووضعت نصب أعينها أهدافاً تتعلق بمناهضة العنف ضد النساء وتوفير مساحة آمنة لهم وبيئة ضامنة لحقوقهم.
شرعت في المطالبة بتغيير القوانين وحاربت من أجل تحسين فرصها في العمل والحياة، ولم توفر جهداً فيما يتعلق بخلق قنوات تواصل مع الجهات المعنية من أجل تحقيق ذلك، غير أن ذلك غالباً ما اصطدم بعوائق كثيرة قانونية واجتماعية وسياسية واقتصادية في معظم الأحيان.
لقد اجتهدت تلك المنظمات في الدفاع عن التغيير بالطرق الرسمية والإعلامية في أحيان كثيرة، إلا أن الجهد المبذول كان أشبه بمحاربة طواحين الهواء، حتى إننا نستطيع الاعتراف بأن الحركات النسوية كسبت أعداء أكثر مما كسبت أنصاراً وأصبحت صفة النسوية بمثابة شتيمة أكثر منها مديحاً أو تقديراً.
ربما فشلت المنظمات العاملة في الشأن النسوي بتقديم نفسها للمجتمع لأنها في كثير من الأحيان اختارت توجيه خطاب متعالٍ وقدمت نفسها بشكل رافض للقوانين الاجتماعية المقدسة في وجهة نظر الشريحة الأعم، وفي أحيان كثيرة انحازت إلى مهاجمة العرف الاجتماعي أو النصوص الدينية، واختارت مواجهة المجتمع بدلاً من محاولة التقرب منه وجذبه إلى طرفها.
في مراجعة بسيطة يبدو أننا كمناصرين لقضايا النساء خسرنا أكثر مما ربحنا في التعامل مع القضايا أو كسب مناصرين لها، وأصبحت الحركات النسوية بمثابة جماعة يلفظها المجتمع بمختلف شرائحه، من نسائه ورجاله المحسوبين على الشريحة المتعلمة أحياناً، كذلك عجزنا عن تحقيق تقدم ملموس يضاف إلى رصيدنا من الناحية القانونية بشكل أولي، وخسرنا نقاطاً في الرصيد الاجتماعي أيضاً، مما شكل أزمة تتمثل بتشكل فجوة بين أصحاب القضية وبين حلقات المجتمع التي قد تكون الداعم الأساسي للحركة النسوية.ربما يحتم علينا الوضع القائم إعادة النظر بالأسلوب، والعمل على محاولة تغيير طريقة التعامل والبحث عن حلول جدية للخروج من المأزق الاجتماعي الحالي.
تحتاج الحركات النسوية إذاً وقفة حقيقية مع ذاتها على صعيدين رئيسين، يتمثل الصعيد الأول بالتنظيم الداخلي ومحاولة المأسسة على أسس تختلف عن الأسس التقليدية، بينما يتمحور الصعيد الثاني بالعمل على دعم الصورة الخارجية للحركة ومحاولة تصحيح المفاهيم الخاطئة السائدة عن الحركة، أو عن النساء العاملات فيها أو حتى المناصرات لها.
قد يخالف ذلك الفكرة العامة والجوهرية للحقوق والحريات، وقد تظهر معارضات شديدة لأن الحقوق تؤخذ ولا تعطى، غير أن النظر إلى الظروف المحيطة والنتائج النهائية لا بد أن يجعلنا نعيد النظر في الأسلوب القديم في التعامل لأننا لا يمكن أن ننتظر نتائج مختلفة إذا ما كررنا السلوك ذاته باستمرار.
لم يكن ذلك حال النساء في منتصف القرن المنصرم وذلك أمر مرهون بظرفه العام والخاص، غير أن المجتمع العربي ذو طبيعة خاصة بشكل مبدئي وبحاجة إلى آليات تعامل مختلفة نوعاً ما، علاوة على وجود حالة من التجهيل المتعمد انتهجتها أنظمة الاستبداد زادت الأمور سوءاً وجعلت من البيئة الاجتماعية نابذة لكل ما ينافي الحشمة والأخلاق من وجهة النظر التقليدية.
يشبه ما نفعله إذاً بانتهاجنا الأسلوب التقليدي محاولة ترميم المنزل مع البقاء على أساسات متهالكة، لأننا نغض النظر عن ضرورة التواصل مع القاعدة الاجتماعية ونركز على التغيير من رأس الهرم لا من قاعدته.
يبدو أن هذا هو لب الموضوع وفحواه، إذ إن المنظرين لحقوق النساء أخذوا لأنفسهم مكاناً بعيداً ما جعلهم موسومين بحالة التعالي أولاً، إضافة إلى أن نبذ المجتمع لهم قوبل منهم برد فعل أشد مبني على آلية الدفاع عن النفس عن طريق الهجوم، على الرغم أننا لسنا مع المجتمع أو مع الرجل في حالة عداء بقدر ما نشعر من نبذهم بالخذلان والإحباط.
أدت “السلوكات” المتعاقبة إلى قطع عرا الود بين الطرفين واختار كل منهما قذف الآخر وذمه أو تجاهله في أحسن الأحوال، غير أننا لا يمكن أن نلقي اللائمة هنا في قطع هذه العرا على المجتمع فحسب، بل يجب الاعتراف بأن المنظمات العاملة في الحقل النسوي تتحمل جزءًا كبيراً من المسؤولية لكونها الأكثر دراية بالتعقيد الاجتماعي ولكونها لم تبادر إلى خلق تواصل فعال معهم.
تبدو الحركة النسوية في مأزق حقيقي ولا يمكن الإقرار بغير ذلك أو الاكتفاء بإنكار الواقع، لذلك إن أول ما يتحتم علينا هو محاولة خلق قنوات تواصل غير رسمية مع شرائح المجتمع والتقرب منها والتعمق في الوصول إلى شرائح بعيدة عن المنصات الإعلامية، وذلك لا يتحقق إلا بالتشمير عن السواعد والنزول إلى قلب الميدان وعدم الوقوف في البرج العاجي وإطلاق أحكام وتصريحات فضفاضة.
لا يختلف اثنان ممن يؤمنون بحقوق الإنسان على أحقية القضية النسوية، الا أن الوقت قد حان للعمل بدأب على المجتمع بمفاصله المختلفة أكثر من محاولة التأثير وفق قنوات التواصل الرسمية القانونية والسياسية، خاصة أنه بات من اليقين أنها لا تغني ولا تسمن من جوع وتثقب رؤوسنا بالجعجعة ولا تعطي طحيناً.
فالمرأة بحكم طبيعتها تعد من أكثر الكائنات قدرة على تبصر مواطن الضعف وتحليلها، إضافة إلى أنها تشترك مع شرائح المجتمع العربي في كثير من القواسم المشتركة، ذلك أنهما تجرعا من الكأس ذاتها، الكأس المترعة بالاضطهاد والفوقية والتهميش والتجهيل وسياسة كم الأفواه، وأكثر من ذلك كله استغلال حالة التبعية الاقتصادية التي يستخدمها الطرف الأقوى لإخضاع من هو أكثر ضعفاً منه.
وفاء العلوش _ تلفزيون سوريا