يبين المشهد السوري أبعاد مختلفة في المأزق الذي يحيط بنظام الأسد. ففي الجانب السياسي يستمر مأزق النظام نتيجة عدم وجود حل في سوريا وحولها. حيث مازال النظام وحلفائه الروس والإيرانيين ومليشياتهم عاجزين عن الوصول الى نهاية الحل الأمني- العسكري الذي يفضلونه، بل ان أبرزهم وهم الروس، ليست عندهم قناعة بالوصول الى حل من هذا النوع، بينما الحل السياسي مازال بعيداً ليس بسبب الانقسامات الاقليمية والدولية حوله فقط، بل ايضاً نتيجة معارضة النظام لحل، يرى فيه نهايته، ولو بعد وقت.
الأهم والأكثر سخونة واثارة في المأزق، هو الجانب الاقتصادي – الاجتماعي الطافح في المشهد السوري. ففي معطيات هذا الجانب، مايجعل كارثة السوريين فوق التصور والاحتمال. فاضافة الى البطالة والفقر ومشاكل الصحة والسكن والتعليم، وما يصاحبها من أمراض ومشاكل اجتماعية، فإن انهيار قيمة العملة السورية مقارنة بالعملات الاجنبية، فاق كل التقديرات، والأمر في هذا بدا نتيجة مركبة لعوامل وتفاعلات محلية واقليمية، أطبقت قبضتها على بلد واقتصاد منهكين، وعلى نظام هش وفاسد عاجز عن اتباع أي حل خارج ما تبقى من نهج الإكراه مواصلاَ استخدام القوة الامنية على بطانته ايضاً، أملاَ في الوصول إلى ما يساعده على تجاوز المأزق الراهن، إذا لم يتمكن من إيجاد حل للمأزق على نحو مايحلم فاعلون في بنية النظام.
وسط الوضع الكارثي الذي يحيط بالمشهد السوري ونظام الأسد، يقع الاخير في حيرة اتباع مخرج مناسب، وقد سعى في السنوات الماضية إلى إجراءات تمرير الازمة من حلقة إلى اخرى، وكان اعتماده الأقل على المصادر المحلية والأكثر على تقديمات ومعونات حلفائه الروس والإيرانيين، واعتمد في بعض الحالات على تقدمات وإعانات منحها له داعمين سريين من المحيط العربي والدولي.
لقد وفرت المصادر المحلية دعماً ملموساً للنظام ساعد في تمرير سنوات الحرب. اذ تكفل بعض مؤيدي النظام من رجال المال والاعمال بتقديم مساعدات مالية للنظام، وبعضهم زاد على ذلك تشكيل ميليشيات مسلحة، تقاتل الى جانب قوات النظام، وتضبط مناطق سيطرته، وأضاف البعض الى ما سبق تقديم مساعدات متعددة الاوجه الى حاضنة النظام، وكان التعبير الأبرز في هذه المجموعة رامي مخلوف وبين أهم التعبيرات الاخرى حسام القاطرجي وفارس الشهابي والقائمة تطول، ولعبت عمليات نهب وتعفيش المناطق، التي اقتحمتها قوات النظام وتجارة المخدرات دوراً في تمويل مجموعات وشخصيات داخل النظام، كما لعبت الإتاوات على الأموال التي تم تحويلها لمساعدة السوريين من الخارج وعائدات الحواجز، ولاسيما في المناطق المحاصرة دوراً في تمويل النظام وبعض مجموعاته وشخصياته.
إن أهم مصادر تمويل النظام والحرب على السوريين كانت مصادر ايرانية وروسية. حيث انفقت إيران ما بين 30 و 48 مليار دولار في سوريا منذ تدخلها عام 2012، فيما تراوحت النفقات العسكرية الروسية وحدها مابين 5 و7 مليار دولار في سنوات تدخلها مابين أواخر 2015 ومنتصف العام 2020، وفي حين كان القسم الأكبر من الصرفيات الروسية مخصصاً للشؤون العسكرية والامنية، فإن الصرفيات الايرانية ذهبت اضافة الى البند السابق الى بنود، شملت توريد الاغذية والادوية والمشتقات النفطية والخدمات.
لقد تغيرت ظروف الأطراف جميعاً حالياً. حيث استنفذت سنوات الحرب معظم قدرات السوريين المادية، وانخفض عائد الأطراف المحلية من الحرب، التي تراجع عدد معاركها، وتغيرت نوعيتها، وانخفض مستوى النهب والتعفيش، وانتهت حالات الحصار الكبرى، وغابت حواجز ممرات المناطق المحاصرة، وكله انعكس سلباً على القوى المشاركة في الصراع، فيما تراجعت موارد مؤيدي النظام من رجال المال والأعمال الى درجة، دفعت رامي مخلوف الأبرز فيهم الى التمرد على النظام، ورفض مد النظام بالمال، فرد الأخير بإجراءات رادعة، مازالت تتواصل، قبل ان يشمل آخرين بذات الاجراءات.
ولم يكن تدهور تمويل النظام مقتصراً على الاطراف المحلية، بل اصاب الحليفين الروسي والايراني، خاصة وأن نظام الأسد لا يستطيع دفع ديونه لأي منها، فيما لا تدر اغلب الامتيازات والاستثمارات، التي منحهما النظام مكاسب جدية عليهما لأسباب أهمها استمرار تدهور الأوضاع السياسية والميدانية، وعزوف المجتمع الدولي عن بدء عملية إعادة الإعمار قبل الشروع في تسوية سياسية للصراع في سوريا وحولها بالاستناد الى القرار الدولي 2254، وقد اضيف الى ماسبق عاملاً مستجداً، وهو وقوع كل من إيران وروسيا تحت ظروف سياسية- اقتصادية نتيجة جائحة كورونا والتراجع الكبير في أسعار النفط.
وبطبيعة الحال، فقد جاء تطبيق قانون قيصر الأميركي لعام 2019، ليفاقم مأزق نظام الأسد، ليس فقط من باب توسيع إطار العقوبات المفروضة عل بمافيه من هياكل وشخصيات ذات صفة، بل من خلال اعتماد آليات جديدة من جهة، وتطبيق عقوبات على هياكل وشخصيات ذات صفة ومؤثرة في بلدان اخرى ممن يقيمون علاقات وتعاون مع نظام الأسد وهياكله وشخصياته، ولاشك انه سيتم التركيز بصفة اساسية على روسيا وايران من بين دول لها علاقات مع نظام الأسد، وقد بدأت اول آثار ذلك في لبنان الذي طالما سعى نظام الأسد بالتعاون مع الأوساط الحاكمة هناك، لجعله حديقة خلفية، يتنفس منها النظام، ويعالج فيها بعض مشاكله.
واضافة الى تدهور قدرة روسيا وإيران على الإنفاق في سوريا، فانهما ستكونان أكثر حذرا في التعامل مع النظام وهياكله وشخصياته في المرحلة المقبلة بفعل قانون قيصر، وهو ما ستذهب إليه دول عربية واجنبية، أبدت في العامين الأخيرين رغبة في الانفتاح على النظام ومساعدته تحت لافتات متعددة منها المساعدة لدفع النظام نحو حل القضية السورية وإعادة الإعمار ومواجهة فيروس كورونا، وجميعها كانت لافتات مضللة.
إن خيارات نظام الأسد في مواجهة مأزقه محدودة. فإذا كانت روسيا وإيران لن تقدم قدرات جديدة للإنفاق في سوريا، بل سوف تخفضان من إنفاقهما هناك، كما أن اياً من الهياكل وايا من الأشخاص فيهما وفي البلدان الاخرى، لن يغامر ويدخل في مواجهة خاسرة مع الولايات المتحدة، وبسبب من ضعف ومحدودية قدرات المصادر المحلية، فإنها لن تكون قادرة على الإنفاق بما يتناسب مع ادنى احتياجات النظام.
وسط الصورة السوداء لما يحمله المشهد السوري، لايبدو هناك اي حلول يكون بامكانها تمرير الازمات والمشاكل الحالية، او معالجتها بطريقة جذرية، الأمر الذي يجعل النظام يتخبط في علاقاته وسياساته وقراراته وإجراءاته، ليعطي للعالم انطباعاً انه يحسن ويتغير، بادئاً من علاقاته مع الروس والإيرانيين التي تظهر كل يوم بتفاصيل جديدة، مروراً بالخلافات داخل الحلقة المركزية للنظام ومنها خلاف الاسد مع مخلوف، وصولاً الى حكومته بقرارتها وإجراءاتها الارتجالية، والتي لاتراع المعطيات المحيطة إلا من باب المصلحة الضيقة لنظام الأسد والمقربين منه، ومن هنا يمكن فهم التعديلات الجارية في قائمة المقربين من النظام بأبعاد بعض القدماء وضم أعضاء جدد في قائمة رجال الاعمال، وفي التشكيل الحكومي الجديد وفي القوائم الانتخابية لمجلس الشعب المقبل، وقبل كل ماسبق في تعيينات كبار الضباط في المؤسستين العسكرية والأمنية، التي يعتمد عليهما النظام، ويراهن عبر مساندتها له للتغلب على المأزق الراهن أو تمريره على الاقل دون مفاجأة كبرى.
فايز سارة _ من صفحته على الفيسبوك