بين انتخابات العراق في تشرين الأول وانتخابات لبنان في أيار، حظيت سوريا بالكشف عن مجزرة التضامن. الانتخابات في البلدين جرت على أسس طائفية واضحة، وفق محاصصة مكرسة دستورياً. المجزرة جرى تأويلها طائفياً، إذ من المؤكد أن مرتكبها الرئيس علَويّ ومن شبه المؤكد أن ضحاياها سُنّة. من المحتمل جداً أن تؤدي نتائج الانتخابات اللبنانية إلى استعصاء وشلل سياسي، كما حدث في العراق، لكن في البلدين “وإثر حركتي احتجاج شعبيتين” دخلت إلى البرلمان أصوات معارضة جذرياً للنظام السياسي القائم، بينما نظام المجزرة في سوريا يوالي عمله، ليُبنى عليها الملمح الطائفي السوري الأبرز بجدارة وهو الحقد.
لا ترمي هذه المقدمة إلى امتداح الصيغة اللبنانية العتيدة، أو الصيغة العراقية ما بعد صدام حسين، لكن استحضارهما قد يكون مفيداً لقراءة المسألة الطائفية السورية، مع تذكر وقوع سوريا في الوسط جغرافياً بينهما وأوجه التشابه المتعلقة بالتعدد الديموغرافي. إذا شئنا الاختصار، في لبنان، ثم في العراق، هناك طائفية واضحة معترف بها، يصرّح فيها الطائفيون عن أنفسهم وعن مشاريعهم بلا خجل، ومعارضو الطائفية يعترفون بوجودها وأسبابها المركبة، فلا ينتظرون حلولاً بسيطة أشبه بالمعجزة.
قد يبدو شبيهاً بالطرفة قولنا أن لا طائفية في سوريا، رغم تكاثر الكلام أو التحريض الطائفي، سواء كان صريحاً أو مستتراً. فالأقوال الطائفية حتى الآن تدل على ووجود طائفيين، ووجود ممارسات طائفية، من دون أن يكون هناك وعي طائفي يقترح مشروعاً للجماعة الطائفية التي يمثّلها عندما ينطق ضد جماعة أخرى، أو عندما يصل إلى حدود القتل والإبادة.
الطائفي السوري بطبيعته متبرئ من الطائفية، هو ينظر إليها كتهمة مسيئة جداً. يمكن اختصار الأمر من وجهة نظره على النحو التالي: الطائفي هو الآخر. تعبير “الآخر” لن يكون فردياً بالطبع، إذ يقترن بارتكاب جرائم ضد مجموعة تُوصم بالإرهاب والتكفير، مع تحاشي تسميتها بالسُنّة، ليأتي رد الفعل بإحالة الجريمة إلى “طائفة مجرمة”.
يكاد الجدل الطائفي السوري، الصريح أحياناً والموارب غالباً، أن يكون سجلاً للجرائم فحسب. فلا نرى فيه وعياً يؤسس لخصوصية سورية، أو صيغة سورية، على النحو الذي حدث في لبنان مثلاً. في لبنان، لم تكن المارونية السياسية مجرد مشروع هيمنة وسلطة بالجيش والمخابرات، وثمة جهد فكري غزير بُذل لصناعة لبنان المتمايز عن محيطه الإسلامي، وحتى العربي. لأسباب طائفية في الأساس، اختُرع لبنان، واختُرعت له صورة استقرت لنحو قرن، وساهم في اختراع لبنان وصورته مفكرون وفنانون، ثم أدت الصورة المخترَعة دورها في بروز اللبناني الذي يرى نفسه متمايزاً عن محيطه، مع أن هذا التمايز لا يُصرف في الداخل الذي تسوده تمايزات وصراعات الطوائف.
بالمقارنة، حتى الآن تُصرف جهود فكرية سورية لإثبات وجود الطائفية أو لإنكارها، فلا توجد مشاريع فكرية قائمة على الاعتراف بها، ومن ثم على القول بوجود خصوصية سورية ما. لقد استخدم مرة المفكر الراحل صادق جلال العظم تعبير “العلوية السياسية”، لكن في الواقع ليس لدينا في الواقع مشروع طائفي متكامل يمكن أن يقارن بما يحيله الوصف إلى المارونية السياسية. في أقصى الأحوال، يصعب تشبيه التمحور حول سلطة الجيش والمخابرات بالمارونية السياسية.
الحال من جهة الإسلام السياسي السوري لا يختلف كثيراً، بدءاً من الإخوان المسلمين التنظيم الأقدم. الأيديولوجيا هنا تحيل بلا لبس إلى المذهب السني، وبحيث يستحيل مجرد التفكير بأن ينتمي شخص غير سني إلى الإخوان أو أية جماعة أخرى قائمة على الفقه السني. في الواقع، لا يطرح أيّ من هذه التنظيمات نفسه بصراحة كتنظيم طائفي، وتتراوح الأطروحات بين أن يكون السُنة بمثابة الأمة في سوريا، وبين الأفق الإسلامي العالمي لبعض التنظيمات، ورؤية سوريا بوصفها جزءاً من جهاد إسلامي أوسع. الإسلامي السوري لا يرى نفسه طائفياً أيضاً، إنه فوق المسألة الطائفية التي يراها شأناً من شؤون الأقليات.ثم لا يندر بعد إنكار الطائفية، أو رميها على الآخر، أن تبرز الفكرة القائلة بأن الطائفية هي صناعة الأجنبي.
الطريف، والغريب في آن، أن إعلام ومناهج تعليم الأسد لطالما تحدثت عن محاولات الاستعمار الفرنسي بث الفرقة بين السوريين، لتستمر المقولة ذاتها عبر معارضين يتهمون فرنسا بالتسبب فيما آلت إليه سوريا حالياً من خلال إنشاء جيش المشرق، الجيش الذي يرونه مكوناً أساسياً لطائفية ما صار يُعرف لاحقاً بـ”الجيش العربي السوري”. لاحقاً، مع اندلاع الثورة خاصة، ستحتل إيران بجدارة موقع المستعمر القديم بوصفها مصدر الاستقواء الطائفي للأسد.
في ما مضى أمكن لقليل من النكات اختراق المناخ الفكري الرصين المواظب على معاداة الطائفية، أو على إنكارها، نكات من قبيل أن يُنسب إلى ضابط كبير، أو إلى شخص من عائلة الأسد، قوله أنه يكره الطائفية والسُنّة، وهذه كما هو معلوم تعريب للنكتة العالمية عن شخص يكره العنصرية والزنوج. حلّت المجازر مكان النكتة، ولم تتقدم المعرفة زيادةً عنها، وعندما نبحث فيما كُتب عن الطائفية نعثر على نمطين يتشاركان في هجائها؛ النمط الذي ينكرها أو ينكر فعاليتها، والنمط الذي يعترف بها وبفعاليتها. نحن على سبيل المثال لا نعثر على كاريكاتير واحد يتناول المسألة الطائفية خارج الهجاء المعتاد، وبالمقارنة مع الواقع ربما يكون الكاريكاتير الأكثر سخرية تلك اللافتة-الشعار الذي رفعه المتظاهرون في مستهل الثورة ومفاده أن “الشعب السوري واحد”.
ربما علينا التفكير في ما عناه ويعنيه الاستثمار في المسألة الطائفية من دون تبنيها، ومن دون طرح مشاريع أو وعي طائفي واضح وصريح. ربما لا تكون التقية السياسية هنا أو هناك المبرر الوحيد لغياب الطائفية، مع وفرة الطائفيين أو وفرة الممارسات ذات البعد الطائفي، فهذه الصيغة المائعة تتيح لأصحابها التملص من المسؤولية إزاء جماعتهم، طالما أنهم يشغلون مواقعهم فقط رداً على طائفية الآخر. أليس الوجه الآخر لتغييب أو كبت الطائفية، كما حدث حتى الآن، هو حرمان الجماعات من محاسبة أبنائها الذين يتصرفون أو ينطقون باسمها؟
عمر قدور _ المدن