syria press_ أنباء سوريا
نفكر في العنف من وجهة نظر الذكور، أي العوامل والأدوار الجديدة في المكان الجديد في بلد المهجر واللجوء. نحاول الإجابة عن سؤال ساذج، “لماذا قد يضرب أحدهم شريكة حياته حدّ الموت؟”
لو دخلنا إحدى صالات العرض الباريسيّة التي استضافت منذ بضعة سنوات معرض “براهين الحب” لما شاهدنا ما يثير الاهتمام. توزعت صور لمكواة، طنجرة، وسادة، مكبّر صوت، إذ لا يخطر على البال بداية سبب استعراض أدوات يوميّة يمكن شرائها بأثمان بخسة، خصوصاً أن الصور تبدو ناصعة ونظيفة، أشبه بتلك الخاصة بالإعلانات.
لكن ما كانت تحاول كامي غربي صاحبة الصور أن تنقله لنا، يتضح حين نقرأ بطاقة التعريف الخاصة بكل صورة، وفيها اسم امرأة، وعمرها، ومصيرها.
هنا نكتشف سبب استعراض هذه “الأغراض”، فهي أدوات الجريمة، التي استخدمت من قبل رجال ضد شريكاتهن أو زوجاتهن في المنزل، مكان الاستقرار والملجأ الحميمي.
تعتلي الجسم القشعريرة حين إعادة النظر إلى الصور، نحن أمام “رعب” وخوف من “أسلحة” حاضرة ضمن الفضاء الأشد أمناً، “المُستقر”، المنزل، الذي يتعطل فيه الخارج، ويعاد بسبب “داخليته” و”خصوصيته” تكوين الذات، هذا إن تبنينا المقاربة التقليدية لشكل الأسرة النوويّة.
لكننا هنا نستعيد هذا المعرض وما فيه للإشارة إلى أن العنف خفي وغير متوقع، ولا يمكن التنبؤ به، وسلاحه كل ما هو “متوافر” أمام يد المرتكب.
الهجرة : عنف مضاعف
لكن هذا العنف والاختفاء، تختلف أسبابه ضمن الأسر المهاجرة الى الغرب، نعني تلك التي تحاول إعادة توطين ذاتها في بلد مُضيف. أسر “غريبة” فقدت الاستقرار بسبب التهجير، ووجدت لنفسها مساحة جديدة للحياة ، والأهم أدواراً مختلفة داخل وخارج المنزل، الذي مازال اللدنّة الأساسية للـ”أسرة”.
نتحدث عن هذه الأسر بسبب الحكايات المرعبة التي تظهر فجأة على وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام، آخرها عن سيدة سورية تعيش في فرنسا قتلت بوحشيّة من قبل زوجها. حكاية من حكايات عديدة تفيض بالعنف الأسري بين العائلات المهاجرة، والذي يُسكَت عنه في الكثير من الأحيان، خوفاً من الفضيحة أو من خسارة الرجل عِماد المنزل، أو لأجل الأطفال إن وجدوا.
والسكوت هنا في فرنسا والغرب عموماً يختلف عن الصمت في بلاد المنشأ حيث تتضافر القوانين والثقافة المحلية ضد النساء. لكن، كيف نفهم ما يحصل بدقة، خصوصاً أمام عبارات متحذلقة مثل لـ”لكل منزل خصوصيته” و”العلاقات بين الأزواج معقدة”. الأسباب داخل وخارج المنزل متعددة ومتكررة، وطرق النجاة عبر المؤسسات والشرطة وغيرها أيضاً فعالة ومجديّة في بعض الأحيان، خصوصاً في فرنسا التي تحوي واحدة من أعلى نسب العنف الزوجي، لكن المشكلة ما زالت إلى هذه اللحظة بدون حلّ، كما أن حجج الصمت على العنف معروفة و مخاوف “فضح” العنف واللجوء إلى الشرطة أيضاً مأخوذة بعين الاعتبار.
الإشكالي أن ما يصلنا نحن الجمهور العام من معلومات عن حالات العنف المتكرر وشبه اليومي، يكون ضمن الأخبار والتقارير وبعد حصول الجريمة، لا نلتقط الحيثيات والسياقات والأسباب “الخصوصيّة”، وهناك دوما تعميم ومحاولات لخلق مفاهيم لا يمكن الفكاك منها من أجل تشخيص الظاهرة، فالمعرض السابق تجاوز المألوف، فعادة إما نقرأ خبراً سريعاً، أو منشوراً مرعباً على وسائل التواصل الاجتماعيّ، أو نقرأ أرقام وإحصائيات في تقارير المنظمات الإنسانيّة.
نفكر الآن في العنف من وجهة نظر الذكور، أي العوامل والأدوار الجديدة التي قد تدفع إلى العنف في المكان الجديد، وسنحاول الإجابة عن سؤال ساذج، “لما قد يضرب أحدهم شريكة حياته حدّ الموت؟” خصوصاً أن التهديد الآن فيما يخص “الأجانب” في فرنسا أخذ صيغة قانونيّة إشكاليّة، ففي حال أثبت على الرجل تهمة العنف الزوجي أو الأسري أثناء طلبه لبطاقة الإقامة، فسيحرم من ذلك بل ولن تتجدد إقامته، ما يعني بصورة ما الطرد من الأراضي الفرنسيّة لعدم احترام “قيم الأسرة الفرنسيّة”، أي أن العقوبة لا تعني فقط فقدان المنزل أو السجن، بل فقدان حق التواجد في فرنسا.
الإحباط أو “لا ربّ لهذا البيت”
نتحدث عن الإحباط هنا بوصفه نتاج شروط موضوعيّة، خارجة عن إرادة أفراد الأسرة، تتحطم بسببها الصورة التقليديّة التي يمتلكها ربّ الأسرة عن نفسه، فعادة هو المسؤول عن العمل و تأمين الطعام واللباس، الوظائف التي تتلاشى في المراحل الأولى من الاستقرار في البلد المضيف، فالبيروقراطيّة والمعاملات الإدارية هي المسؤولة عن اختيار مكان الإقامة ومقدار الدخل ، ذاك الذي لا دور للأسرة في تحديدهما، أي يتم اختيار المكان حسب الشواغر لا حسب الرغبة، فالوظيفة التقليدية للرجل تتلاشى، بل يتساوى أمام المرأة بدورها التقليديّ، فهما فردان ممنوعان من العمل في ذات الوقت هما ليسا ضمن زمن الراحة أو الإجازة، كلاهما معلّقان في مرحلة الانتظار، والقرارات المرتبطة بـ”المنزل” بوصفه مكان الاستقرار بيد السلطة، ما يحوله إلى “ملجأ” لرد الخارج وما يحويه.
يترافق هذا “التعليق” مع صعوبات اللغة، والدخول ضمن كتلة من المهاجرين الذين تراهم السلطة متشابهين لا تمايز بينهم، كل هذا يعزز شعور فقدان “السيادة” على المنزل، وهنا يتحرك الإحباط، بوصفه العجز عن تنفيذ القرارات الحياتيّة، ليصبح الإحباط وحسب ما نقرأه في رأي الأخصائيين واحداً من أبرز عوامل العنف بين الأزواج اللاجئين، خصوصاً في مخيمات الإيواء بوصفها المساحة الأشد التي يظهر فيها العنف، فهي منازل مؤقتة، لا سيادة لأحد فيها.
المنزل فضاء سياسي لا شخصيّ
أشد الصور رعباً هي تلك التي نشاهد فيها جهاز السلطة البشريّ (الشرطة) يقتحم المنزل ويفكك أفراد الأسرة بالقوّة، نافياً “المُستقر” الذي تحول إلى مساحة خطرة، ومهدماً العلاقات الشخصية والعنف المرتبط بها على حساب إنسانيّة الأفراد وأمنهم. هذه الصورة تخلق رعباً رجولياً، فما في “الداخل” يتحول فجأة إلى شأن فضائحي، المذنب فيه واضح و الضحية فيه واضحة (ولو لم تعترف بذلك)، تسيس هذا المنزل و دور الجهاز التنفيذي، يعني أن رجل المنزل ليس المُهيمن ضمنه، فصورة الرجولة التقليديّة، صورة الراعي ، العاطفي، الغاضب، المحبط، مُهددة في حال صرحت المرأة عن العنف الذي تتعرض له (الذي يكون في بعض الأحيان لأسباب تافهة)، وهنا يظهر القتل بشكل “شاعريّ” لا يمكن إنكاره، الزوج ينهي حياة زوجته وينتظر الشرطة أمام جثتها، إفناء للمنزل والشريك، واستسلام كامل للسلطة التي تصادر هذه السيادة على المنزل وعلى جسد الرجل الذي صان “شرفه” أو صورته أو أخلاقه، أشبه بتضحية لغسل العار بصورها الأكثر مأساويّة و “حمقاً”.
باختصار، التهديد بفقدان السيادة على المنزل وما يدور فيه، يجعله مساحة هشة من وجهة نظر الرجولة التقليديّة، التي لا ترى فيه “ملكيّة” خاصة بالمعنى المجازي والحرفي، ما يعني إمكانيّة “التضحيّة” به لاختزال العنف في جسد الشريك، الأقدر على تحمل الإهانات والعنف من “الخارج” الغريب والمجهول.
أزمة الأدوار الجديدة
تواجه الأسر في بلدان اللجوء أدوارا جديدة متاحة لكلا الزوجين، أدوارا ليست معتادة ضمن الشكل التقليدي، ونقصد هنا حقوقا وواجبات لم تكن حاضرة سابقاً، والحفاظ عليها يهدد استمرار الأسرة. نتحدث هنا عن العمل و التعليم و تربية الأطفال، هذه “الحقوق” المتاحة أمام المرأة تعيد تعريف الأسرة نفسها ونوويّتها (مال الرجل وجهد المرأة المجاني).
بكل بساطة ينكسر مفهوم المرأة للمنزل والرجل للخارج، ذاك الذي نتلمسه في الحكايات التي نسمعها عن منع بعض النساء من العمل أو إكمال تعليمهن أو الاختلاط بالأجانب، كلام يبدو تقليديّا أو غير قابل للتصديق، لكنه متكرر، خصوصاً أن الرجل يفقد امتيازات سابقة له، كتعدد الزوجات، والصمت الاجتماعي على العنف الأسري، والقبضة الاقتصاديّة، كل هذه المزايا تتلاشى قانونياً بل وتجرّم في العديد من الدول، هذا “الحرمان” الرجولي و”المكاسب” النسويّة، تهدد صورة الرجل ذاتها، وأدواتها “الطبيعيّة”، ليأتي العنف كشكل من أشكال الدفاع عن السطوة والمكانة والدور التقليديّ، بصورة أخرى الحفاظ على دور المرأة “الضعيفة” وليّة الرجل “القويّ”.
تهديد القدرة على استنساخ الأسرة
تتميز الأسرة النووية بقدرتها على استنساخ ذاتها وشكلها، حفاظاً على الأدوار التقليديّة وأخلاقها وتطلعاتها، والأهم، ضبط انتقال الثروة. لكن لدى الأسر الجديدة، التي فقدت مُستقرها و ثروتها، و أمام الأدوار الجديدة المباحة لأفراد الأسرة، تتهدد عملية الاستنساخ هذه، فالثروة ضاعت، وبقيت الأخلاق والأدوار، تلك التي يتم في بعض الأحيان محاربة تعديلها بشدة، كالتركيز على تعليم الأطفال بشكل محدد، أو منعهم من الاختلاط مع “الأجانب”، وغيرها من الأساليب التي تهدف للحفاظ على “أخلاق” الأسرة.
هذا ما نراه في العنف الموجه ضد الأبناء والبنات، عنف ضد الجيل الثاني، الجديد، الأكثر معرفة في البلاد الجديدة مع مرور الزمن، هذا العنف لا نعرف حيثياته، بل نقرأ أخباره فقط، كأب يقتل ابنته أو بناته، لأسباب أيضاً تبدو “عادية”، كأن شاهدها مع صديقها، أو لمح صورة لها على الفايسبوك، ففقدان القدرة على نقل ذات الأخلاق للجيل الجديد، يولد عنفاً عدمياً، عنفا ينفي السلالة ، إنه العنف الذي يتمثل في قتل الأبناء والبنات، التقليد الذكوري الأقدم للحفاظ على الأسرة وثروتها والأهم أخلاقها.
عمار المأمون _درج