كان لافتاً ذاك التصريح الذي مرره محمد الحلاق، عضو مجلس إدارة غرفة تجارة دمشق، عبر صحيفة “الوطن” الموالية، حينما قال إن سعر الموبايل في سوريا أغلى بضعف ونصف من سعره في جميع دول العالم، وهو ما ينطبق على سلعٍ أخرى، كالزيت والجبنة، حسب الحلاق. لكن للموبايل، قصّة خاصة. فاستيراده معلّق منذ أكثر من سنة، في الوقت الذي تشكل جمركته مصدراً دسماً لخزينة “الدولة”، على حساب السوريّ من أبناء الطبقة المتوسطة.
تصادفَ تصريح الحلاق، الملغوم، مع انتشار شائعة صدور أسعار جمركة جديدة للموبايلات. وهي شائعة تبدو وكأنها “فصلية”، إذ تتكرر كل ثلاثة أشهر، وتبادر وزارة الاتصالات إلى نفيها، مما يثير مخاوف الجمهور من أن يكون النفي، كعادة سلطات النظام، جس نبض، لرفع جديد للأسعار.
فهل يُعقل أن ترتفع أسعار جمركة الموبايلات أكثر مما هي عليه الآن؟ لا نستطيع أن نجزم بما يدور في عقول صُنّاع القرار في “خزينة الدولة”، والذين يفكرون بعقلية جبائية بحتة. لكن المنطق يقول إنه لا يمكن أن ترفع الأسعار أكثر من ذلك، لأنك ستخسر السوق برمتها. فمنذ آخر رفع لجمركة الموبايلات في سوريا، في نهاية تشرين الأول/أكتوبر الفائت، حلّقت أسعار الموبايلات الجديدة في سوريا، حتى باتت خارج استطاعة الشريحة العظمى من السوريين. ورغم ذلك، ما تزال “خزينة الدولة” تحصد المكاسب، الأمر الذي يجعل رفعاً جديداً لتكاليف الجمركة، في سياق الممكن، وفق عقلية أصحاب القرار. إذ تفاخرت “الهيئة الناظمة للاتصالات والبريد”، قبل بضعة أشهر، بحصيلة مكاسبها بسبب آلية التصريح الإفرادي (الجمركة) للموبايلات الجديدة، في آخر ستة أشهر (من آب/أغسطس 2021 وحتى نهاية كانون الثاني/يناير 2022)، والتي بلغت 92 مليار ليرة سورية، أي نحو 25 مليون دولار أمريكي. وهو رقم كبير مقارنة بباقي إيرادات “الخزينة”، الناضبة.
نظرياً، يُجمرك الموبايل الجديد بنسبة 30% من سعره العالمي. ويتم ذلك بإتباع آلية معقّدة، تستند إلى مئات الشرائح وفق نوع الجهاز ومواصفاته الفنية وطرازه. أما على أرض الواقع، فأجور الجمركة قد تصل في بعض أصناف الموبايلات الجديدة إلى 50 أو 75% من قيمته. وفي بعض الحالات، يكون شراء جهاز موبايل جديد في سوريا، بمثابة شراء جهازَي موبايل من الصنف نفسه تماماً، من سوق دولة مجاورة.
وبهذا الصدد، يمكن إجراء مقارنات صادمة عبر موقع “موبوليست”، المتخصص برصد أسعار الموبايلات الرائجة في أسواق دول المنطقة. فسعر موبايل “Samsung Galaxy Z Fold3 5G”، يبلغ نحو 1630 دولاراً في مصر، ونحو 1220 دولاراً في لبنان. لكنه يبلغ في سوريا ما يعادل 2568 دولاراً. أما جهاز “Huawei Y9 Prime 2019″، فسعره في مصر يعادل 193 دولاراً، وفي لبنان بنحو 145 دولاراً، أما في سوريا، فيعادل سعره 413 دولاراً. فيما لا يتجاوز سعر الطراز نفسه، في الإمارات، 231 دولاراً. وتصبح تلك المقارنة فاقعة أكثر، مع موبايل من صنف – “Apple iPhone 13 Pro Max”- الذي يعادل سعره في مصر نحو 1484 دولاراً، وفي لبنان نحو 1220 دولاراً، وفي الإمارات نحو 1498 دولاراً. فيما يصل سعره في سوريا إلى نحو 3048 دولاراً.
وبناءً على المقارنات الصادمة أعلاه، حيث يسجل الموبايل الجديد سعراً أعلى من سعر نظيره في بلدان تحصل شعوبها على دخول أعلى بمرات من متوسط دخل السوريّ، ستكون مفاجأة أن تواصل سلطات النظام الإصرار على رفع أجور جمركة الموبايلات الجديدة. فالعاملون في هذه السوق، يؤكدون أن الإقبال على شراء الموبايلات الجديدة بات شبه معدوم، إذ تنتعش سوق الموبايل القديم والمستعمل، وسوق قطع غياره. وحتى من يصله موبايل جديد، من خارج البلاد، فهو يستخدمه فقط خلال فترة السماح –شهرين- قبل أن تفصله “الاتصالات” عن الشبكة، نظراً لعدم جمركته.
لكن، لقصّة الموبايلات الجديدة، جانب آخر، إضافة إلى العقلية الجبائية للنظام. فتعليق استيرادها، في آذار/مارس من العام الفائت، جاء بعد أشهر فقط من إعلان شركة “إيماتيل”، عن بيعها لأحدث نسخة من هاتف “آيفون” في سوريا، رغم العقوبات الأمريكية. وهي الشركة المملوكة لـ خضر علي طاهر –أبو علي خضر-، المقرّب من زوجة رأس النظام، وشقيقه، والذي يُوصف بأنه واجهة استثمارية لهما. ذاك الاحتكار، هو ما ألمح إليه، عضو مجلس إدارة غرفة تجارة دمشق، محمد الحلاق، في تصريحه الملغوم، الذي بدأنا به. حينما أشار إلى أن تعقيد آليات تمويل المستوردات، موجود، ويبدو أن لا حل له، مضيفاً في معرض إشارته إلى ارتفاع أسعار الموبايلات الجديدة في سوريا، أن هناك إمكانية لتخفيض الأسعار إلى أدنى هامش ربح ممكن في حال وجود التنافسية.
وهكذا، ما بين الجوع الجبائي الذي لا يشبع لخزينة “الدولة” المُفلسة، وما بين جشع الاحتكار لصالح رجال أعمال محسوبين على رأس هرم النظام والدائرة القريبة منه، “يُطحن” السوريّ من ذوي الدخل المحدود، ويصبح الموبايل الجديد، أمنية مستحيلة أخرى، كالسيارة والشقة التمليك، لا يستطيع حتى التفكير بتحصيله، إلا إن حَظِي بفرصة فريدة من قبيل إرثٍ كبيرٍ، أو أُتيح له نهب المال العام، أو التورط في اقتصاد الحرب والتهريب.
إياد الجعفري _ المدن