آلاف الأسر تتسوّل حقّها بـ”السكن البديل” على أبواب “محافظة دمشق”
يستقصي التحقيق أحوال سكان منطقة المزة – بساتين الرازي في دمشق، بعد تهجيرهم من بيوتهم في العام 2017 تنفيذاً لمرسوم جمهوري صدر في 2012 بغية “تنظيم المنطقة”، وإحداث “ماروتا سيتي” و”باسيليا سيتي”. ينطوي الملف على تفاصيل يتداخل فيها الفساد بسوء التخطيط والإدارة بتأثير العقوبات بصراع على النفوذ والمال بين عائلتي شاليش، مخلوف.
تُقدر العائدات الاستثمارية المتوقعة من “ماروتا سيتي” وحدها بما يراوح بين 52 – 105 تريليون ليرة تقريباً (ما يُعادل 3.5 – 7 مليارات دولار)، فيما تحول الناس إلى “متسولين على أبواب محافظة دمشق، وأبواب المكاتب العقارية” بحسب تعبير أحد المتضررين.
ومن بين 7500 عائلة أخليت من بيوتها استحقت 5500 عائلة “مساكن بديلة”، على أن تُسدد أثمانها، سنوات ولم يستلم أحدٌ منزله، بينما تسير الأعمال ببطء شديد يشير البعض أن هدفه دفع أصحاب المساكن البديلة إلى بيعها لـ”شخصيات غامضة” تعمل عبر واجهات عقارية وبأثمان بخسة.
إنتو شلّحتو هالعالم بيوتها، وفوقها عم تدفعوها مصاري كمان..اللي منعرفه إنو السكن البديل المفروض يكون بسعر الكلفة لأنو بدل بيتي اللي أنا دافعة عليه وساكنة فيه سنين طويلة”، تقول هزار بغصّة متحدثة عن واحدة من المظالم الكثيرة التي لحقت سكّان منطقة المزة-بساتين الرازي وحوّلتهم إلى مشرّدين يستجدون أبسطَ حقوقهم.
هزار واحدةٌ من آلاف المتضررين الذين دفعوا، ولا يزالون أثماناً باهظة لقراراتٍ ظاهرُها تنظيمي، وباطنُها ينطوي على شبهات عديدة يتداخل فيها الفساد، بالتخبّط والفشل الإداري، بإعادة «الهندسة الديمغرافية» لواحدٍ من أهم أحياء العاصمة السورية دمشق، وأكبرها: المزّة.
مشرّدون بمرسوم تشريعي
في العام 2012 صدر المرسوم التشريعي رقم 66، الذي نص على إحداث منطقتين تنظيميتين جديدتين في نطاق محافظة دمشق، بهدف “تطوير مناطق المخالفات والسكن العشوائي”، كما تقول المادة الأولى من المرسوم.
المنطقة الأولى هي تنظيم منطقة جنوب شرق المزة من المنطقتين العقاريتين (مزّة، كفرسوسة)، وتمتد على مساحة 214 هكتاراً، وتقررت تسميتها “ماروتا سيتي”؛ أما الثانية فتنظيم منطقة جنوبي المتحلق الجنوبي من المناطق العقارية (مزّة، كفرسوسة، قنوات بساتين، داريّا، القدم)، تمتد من جنوب المتحلق الجنوبي إلى القدم وعسالي وشارع الثلاثين، ومساحتها 890 هكتاراً، وتقررت تسميتها “باسيليا سيتي”.
انقسم السكان الذين يقطنون المناطق المستهدفة إلى شرائح مختلفة وفق المرسوم، فمنهم من له حقّ في الحصول على أسهم في المشروع الجديد وعلى سكنٍ بديل وبدل إيجار إلى حين استلامه السكن البديل، ومنهم من يحصل على بدل إيجار لأجل محدد، ومنهم من لا يستحق سوى أنقاض بيته بعد هدمه. وخلافاً لما قد يتبادر إلى الذهن، فإن مستحقي “السكن البديل” مطالبون بسداد أثمان هذه المساكن، ولا يحصلون عليها مجاناً، أي أنهم يحصلون فقط على الحق في شرائها!
في العام 2015 باشرت محافظة دمشق إخلاء منطقة خلف الرازي من السكان تنفيذاً للمرسوم، من دون إقامة أي اعتبار للظروف الاجتماعية والاقتصادية المترديّة، أو لقلة عدد البيوت المطروحة للإيجار بسبب اكتظاظ العاصمة بالمهجّرين من ريفها، وسائر المحافظات السوريّة.
وقتذاك زعمت المحافظة أن “الاستعدادت للبدء بأعمال البنية التحتية استكملت” بهدف “إنشاء 20 ألف وحدة سكنية تغطي من سيتم إخلاؤهم في المنطقتين التنظيميتين”.
في المحصلة؛ أفضت عمليات الإخلاء التي انتهت العام 2017 إلى إخراج نحو 7500 عائلة من بيوتها، أي تشريد نحو 30 ألف شخص بفرض أن متوسط عدد أفراد الأسرة الواحدة 4 أشخاص فقط! كان المرسوم قد حدد مواصفات وشروطاً ينبغي توافرها لحصول العائلات القاطنة على الحق في السكن البديل، ومواصفاتٍ وشروطاً أخرى للحصول على أسهم في المشروع الموعود.
يقول غالب عنيز، وهو محامٍ وعضو سابق في مجلس الشعب، وفي مجلس محافظة دمشق إن نحو “5500 عائلة استحقت السكن البديل من أصل 7500 عائلة (تم إخلاؤها)، في حين بقيت 2000 عائلة من دون تعويض بسكن بديل أو بدل إيجار”.
وفق المرسوم 66، يُعد السكن البديل تعويضاً للأفراد عن منازلهم المخالفة، ونصّت المادة 45 على “التزام محافظة دمشق بتأمين السكن البديل للشاغلين المستحقين له خلال مدة لا تزيد على أربع سنوات من تاريخ صدور هذا المرسوم التشريعي”، عُدّلت هذه المادة لاحقاً بموجب القانون رقم 10 للعام 2018، بحيث حُدد موعد تسليم السكن البديل بمدة لا تزيد على أربع سنوات من تاريخ إخلاء المنزل.
مع ذلك، لم يحصل السكان على بيوتهم البديلة الموعودة حتى اليوم، رغم مرور نحو تسعة أعوام على بدء عمليات الإخلاء.
يصف محمد، وهو ابن المنطقة الشعبية، مشاعره المضطربة بين التصورات الأولية والواقع الحالي قائلاً: “لو حصلنا على حقوقنا بالكامل كنا من أسعد الناس، وبقينا في منطقتنا ذاتها، أما الآن فخسرنا كل شيء”.
يعود محمد بذاكرته إلى الخلف ليروي ما حدث: “وزعوا إنذارات الإخلاء على السكان من أول المنطقة حتى المتحلق الجنوبي”. تسلم محمد وعائلته إنذارات تطالبهم بالمغادرة مثل بقية أهالي الحي، يقول متذكراً مرارة الموقف: “أصبحنا في مشكلة ثانية وهي تأمين بيوت في مناطق ليست فيها بيوت، استضافني أصدقاء بضعة أشهر قبل أن أستأجر منزلاً في قدسيا بريف دمشق”.
أما هزار أحمد، وهي من سكان المنطقة، فتبدي استغرابها مما جرى: “ليس من المعقول إخلاء عائلة من دون تأمينها بسكن بديل، كانت عملية الإخلاء عشوائية”.
..ومحرومون بـ”جرم السفر”!
خسر صالح منزله في منطقة المزة – خلف الرازي (ما بات يعرف اليوم بـ “ماروتا سيتي”) بسبب سفره خارج القطر أثناء كشف لجان محافظة دمشق على العقارات المنذرة بالهدم وتوثيق شاغليها.
يقول الرجل: “حرمت الإدارة شرائح كبيرة من حق السكن البديل معتبرة أصحاب المساكن الذين لم يكونوا يشغلونها، أو الذين كانوا خارج البلاد أثناء كشف اللجان على المساكن مجردين من الحقوق، ولا يحصلون حتى على بدل إيجار”.
يتحسر صالح على حياة الأهالي في منطقة خلف الرازي عندما انقلبت رأساً على عقب: “للأسف أصحاب الحقوق والمالكون الذين وعدهم المسؤولون بأنهم سيصبحون من أغنياء البلد، تحولوا إلى متسولين على أبواب المكاتب العقارية والمكاتب الإدارية للمشروع”.
المسافر في النهاية سيعود إلى البلد، لذلك نطالب بتخصيص كل الناس بالسكن البديل، وإذا كانت الدولة غير قادرة على تأمين السكن البديل فلتعطِ الناس تعويضاً عادلاً بأسهم
غالب عنيز – عضو سابق في مجلس الشعب ومجلس محافظة دمشق
يُشدد غالب عنيز على أن المشكلة الأساسية للمالكين تتعلق بالقرار 112 للعام 2015، الصادر عن “وزارة الإسكان”، وتضمن شروط استحقاق السكن البديل، مشيراً إلى أن “إحدى مواد القرار نصت على أن الإشغال يجب أن يكون مستمراً من تاريخ صدور المرسوم التشريعي حتى الإخلاء، من دون لحظ الحالة غير المستقرة في البلد، واضطرار كثيرين للخروج بسبب الظروف الأمنية”.
وبالفعل، اشترط القرار في مادته الثانية لتعويض الشاغل الأخير للدار المنذر بهدمها المستحق للسكن البديل أن “يكون الإشغال ثابتاً قبل صدور المرسوم 66 ومستمراً حتى تاريخ الإخلاء”.
مع شيوع كلام عن احتمال تغيير هذا الشرط، أكدت المؤسسة العامة للإسكان أن “الفقرة المذكورة في القرار 112 للعام 2015 الصادر عن وزارة الإسكان التي فرضت على مستحق السكن البديل أن يثبت ملكيته في الفترة الممتدّة من تاريخ صدور المرسوم 66 حتّى الإخلاء لم تتغير حتى الآن”.
كذلك؛ أخلت المؤسسة مسؤوليتها عن آلية توزيع المساكن البديلة وتحديد مستحقيها، مؤكدة أن “عملية استحقاق السكن البديل من اختصاص محافظة دمشق، بحيث ترسل الأخيرة قوائم المستحقين إلى المؤسسة لإجراء الاكتتاب اللازم وفق القرار الوزاري 1249 للعام 2020 وتعديلاته الصادرة بالقرار الوزاري 11221 للعام 2020”.
خوّل المرسوم 66 محافظة دمشق تأليفَ لجنة أو أكثر لحصر وتوصيف عقارات المنطقة، وتنظيم ضبوط مفصلة بمحتوياتها من بناء وأشجار ومزروعات وغيرها، خلال شهر من تاريخ صدوره، لكن هذه اللجان ارتكبت “أخطاء” بناء على تأكيدات مصادر عديدة تحدث إليها فريق التحقيق.
فقد محمد منزله الذي شيده مع أولاد عمومته نتيجة الإخلاء، لأنه لم يكن يملك ما يثبت ملكيته في الأرض المسجلة بأسماء أقاربه وقتها. يتألف المنزل من طابقين يملك محمد أحدهما، لكنه خسر حقه في السكن البديل لأن اللجان اعتبرته مستأجراً للعقار فقط، وليس مالكاً له.
يذكر غالب عنيز أن بعض الأشخاص المتضررين قدموا اعتراضات ودعاوى، “لكن لم يتجاوز عدد الاعتراضات المقبولة 150 اعتراضاً من أصل 2200 شاغل محروم، قدم كثيرون ممن هم خارج القطر اعتراضات لكنها رُفضت”.
“عظام الرقبة” تتصارع على الكعكة؟
في كانون الأول 2016، أطلقت “محافظة دمشق” شركة “دمشق الشام القابضة”، استناداً إلى المرسوم 19 للعام 2015، وهي شركة مساهمة مُغفلة برأسمال 60 مليار ليرة سورية، وتتولى إدارة وبناء واستثمار المنطقة التنظيمية الأولى الواقعة في المزة خلف مشفى الرازي، وبموجب ذلك تُنقل ملكية العقارات التي تعود للمحافظة في المنطقة إلى “دمشق الشام القابضة”، بحسب ما نقلت وكالة (سانا) الرسمية للأنباء. أحاطت إشارات استفهام كثيرة بالشركة الجديدة، والغايات الحقيقية من استحداثها، وأعضاء مجلس إدارتها (يترأسها محافظ دمشق بصفته الاعتبارية)، وكونها واجهة لمصالح كبار المُتنفّذين.
ومع صعوبة الجزم بكثير من التفاصيل، تبقى بعض المؤشرات الدالّة الشديدة الأهمية على ما يحصل في الكواليس، وقد يكون من أبرزها أنّ شركة “دمشق الشام القابضة” كانت أول الأمر هي الجهة المنفذة الحصرية للمشروع بالتعاون مع أذرع تنفيذية تتعاقد معها، لكن في العام 2020 أصدر وزير الأشغال العامة والإسكان قراراً حمل الرقم 1249، ونصّ على تكليف “المؤسسة العامة للإسكان” بتنفيذ أبنية السكن البديل.
ثمة مصادر عديدة تحدثنا إليها، بعضها في موقع الإدارة داخل “الأشغال العامة والإسكان” تربط بين هذا القرار وبين انحسار هيمنة رجل الأعمال الشهير رامي مخلوف. سبق أن “قدّم المدير العام التاريخي لمؤسسة الإسكان العسكرية، رياض شاليش عرضاً في العام 2016 تمثّل باستعداد المؤسسة لتنفيذ أعمال البنية التحتية للمشروع بنسبة أقل بـ 20 بالمئة من أقل عرض آخر قُدم للمحافظة”، لكن في تلك الفترة كانت أسهم مخلوف مرتفعة، وكان قد ارتبط بعقود مع “دمشق الشام القابضة” من خلال إحدى شركاته “روافد دمشق المساهمة المغفلة الخاصة”.
ومع الأخذ في الاعتبار وجود تنافس تاريخي على النفوذ الاقتصادي بين عائلتي مخلوف وشاليش، يبدو أن الأخير نجح في اقتناص فرصة خروج الأول من المشهد في نهاية المطاف! لم يصل الأمر حدّ إقصاء “دمشق الشام القابضة” عن الملف، فهي تمثل “محافظة دمشق”، لكنّ القرارات الجديدة أتاحت على ما يبدو “تقسيم الكعكة” والتوفيق بين مصالح عديدة.
في شباط 2021، أعلن رسمياً عن صب الطبقة البيتونية في أول أبراج السكن البديل في مشروع “باسيليا سيتي”. بعد أن باتت تتولى إنجازه “المؤسسة العامة للإسكان”، فضلاً عن شركات عامة أخرى؛ على رأسها “مؤسسة الإسكان العسكرية”، إضافة إلى “المؤسسة العامة لتنفيذ الإنشاءات العسكرية”، و”الشركة العامة للطرق والجسور”، و”الشركة العامة للبناء والتعمير”، وغيرها، وفق تصريح للوزير سهيل عبد اللطيف في تشرين الأول 2021.
بحسب محافظة دمشق، فإن مساحة السكن البديل المؤلف من 48 مقسماً تعادل نحو نصف مليون متر مربع سكني طابقي.
وعن تباين مساحات الشقق، يجيب صفوح قرقور مشرف السكن البديل في محافظة دمشق، بأن “هذه المساحات إحدى العوائق التصميمية للأبراج، لذلك وزعت الشقق إلى شرائح من 45 متراً إلى 120 متراً مربعاً، وكان مسموحاً رفع أو إنقاص نسبة معينة من المساحات، لكن المستفيد يدفع تكلفة المساحة الصافية التي سيحصل عليها فقط”.
أما حول تغير سعر المتر المربع، فيقول قرقور، إن “السكن البديل للمواطن (من الشرائح المستفيدة التي نصت عليها القرارات) بسعر التكلفة فقط من دون أرباح، كان سعر المتر المربع 550 ألف ليرة سورية، لكنه ارتفع لاحقاً إلى 3 مليون و300 ألف ليرة سورية وقت تخصيص الدفعة الأولى من المكتتبين”، ويضيف: “تدفع محافظة دمشق ما يعادل 3 مليارات ليرة سورية سنوياً بدلات إيجار للمستحقين، أما تعديل قيمة البدلات فتحدده مديرية المرسوم التشريعي”.
“تغيير مواصفات”
كان من المفترض إنشاء السكن البديل لكل منطقة في المشروع الذي ستضمه المنطقة ذاتها، أي أن السكن البديل للسكان الذين يُخلون من “خلف الرازي” سيُنشأ في “ماروتا سيتي”، والسكن البديل للسكان الذين يُخلون من “مزة، كفرسوسة، قنوات بساتين، داريا، القدم” سيُشاد في “باسيليا سيتي”.
لكن محافظة دمشق قررت إنشاء السكن البديل للمنطقتين في “باسيليا سيتي”، في “مخالفة للمرسوم” على ما يؤكد غالب عنيز، الذي يضيف شارحاً: “تضمنت المخططات تخصيص عدد من المقاسم للسكن البديل في المنطقة الأولى (ماروتا سيتي)، لكن فوجئنا بنقلها إلى المنطقة الثانية (باسيليا سيتي) في 2017، وهذه كانت مخالفة للمرسوم”.
أما المحامي رضا نقشبندي، فيذكر أن “السكن البديل يجب أن يكون في المنطقة التنظيمية ذاتها أصولاً، بموجب الدراسات الهندسية التي يفترض أنها لحظت عدد السكان ونسب الوحدات السكنية لتخصيص جزء منها لهم، وإذا نقلت هذه المقاسم إلى منطقة ثانية، تجب دراسة مدى الفائدة أو العوائد للمستحقين مثل المساحة وغيرها”.
لم تصدر توضيحات وشروحات كافية حول أسباب هذا التغيير، لكنّ عدداً من السكان المتضررين، ومن متابعي الملف يرون أن “السبب واضح”، ويتعلق بالفارق الكبير في القيمة العقارية بين من المنطقتين، فـ”المزة تبقى أغلى وأكثر إغراء للمستثمرين وكبار الملّاك من المتحلق”، وفق ما يشرح لنا صاحب مكتب عقاري في كفرسوسة.
وفق هذه النظرية، تكون محافظة دمشق قد فضّلت توسيع هوامش الربح المنشود عبر إزاحة السكن البديل للمنطقتين إلى المنطقة الأقلّ سعراً (باسيليا سيتي).
يشرح أستاذ جامعي متخصص بالاقتصاد، فضل عدم كشف اسمه، أن تقدير قيمة الخسارات والمكاسب للمتضررين والتنبؤ الدقيق صعب عملياً لسببين: أولهما عدم وجود استقرار اقتصادي نتيجة التضخم وتغير تكاليف الإنتاج والأجور، وثانيهما التباعد الزمني مع تأخر تنفيذ كلّ من مدينة “ماروتا سيتي” والسكن البديل.
ويقول، إن “ثمن الأرض التي أخليت من السكان تضاعف مرات عديدة بعد بدء الإعمار فيها مقارنة بفترة ما قبل الإخلاء، ما يعني أن مكاسب سكان خلف الرازي كانت لتصبح أعلى من قيمة السكن البديل الذي سينالونه فيما لو ظلوا في منازلهم وأرادوا بيعها اليوم، لأن أسعار العقارات قفزت تلقائياً بسبب التضخم والعامل الجغرافي (لا تبعد “ماروتا سيتي” سوى كيلومترات قليلة عن ساحة الأمويين، وكيلو متر واحد عن أوتوستراد المزة، وهو موقع يفوق أهمية بأشواط منطقة السكن البديل في مدينة باسيليا سيتي الواقعة بالقرب من المتحلق الجنوبي لدمشق).
يشدد الأستاذ الجامعي على أن أحد العوامل التي تلعب دوراً في ارتفاع أسعار العقارات كونها وسيلة لحفظ قيمة العملة بالنسبة للمواطنين (مدّخرات). ويوضح “أن المتضررين كسبوا منزلاً بديلاً (لم يستلم أحد مسكنه بعد)، لكنهم خسروا قيمة عقار مستقبلي، ومن الخسارات الأولية للسكان: فوات المنفعة، إذ فقدوا الاستقرار الاجتماعي بعد 9 سنوات من الإخلاء بدون تأمين سكن بديل حتى الآن، فضلاً عن تحمل أعباء استئجار أو شراء مسكن”.
مليارات الدولارات للمستثمرين
يبدو الفارق هائلاً بين ما ستحصل عليه المحافظة وجهات القطاع الخاص المُستثمرة، وبين ما قد يحصل عليه السكان مستقبلاً في حال لم يبيعوا مساكنهم البديلة.
يورد المدير التنفيذي لشركة “دمشق الشام القابضة” نصوح النابلسي مؤشرات عن حجم الاستثمارات في المنطقة التنظيمية “ماروتا سيتي” التي تبلغ مساحتها 3,5 مليون متر مربع طابقي موزعة بين مساحات سكنية واستثمارية ومختلطة تُقدر فيها المساحات الاستثمارية بحدود 1.5 مليون متر مربع طابقي.
يقول: “يمكن تقدير حجم عوائد الاستثمارات بحساب بسيط على أسعار المبيع حالياً لمتوسط سعر المتر على الهيكل أو مع إكساء للمرافق العامة، والذي يراوح بين 15 – 30 مليون ليرة مضروباً بالمساحة الطابقية البالغة 3.5 مليون متر مربع”. (أي ما يراوح بين 52 – 105 تريليون ليرة تقريباً، وتساوي ما يراوح بين 3.5 – 7 مليارات دولار).
ويضيف: “الأسعار تتفاوت بين عقار وآخر بحسب الموقع والإطلالة، والمباشرة بالتنفيذ، والمرحلة التي وصل إليها، بالإضافة إلى جدية المقاول وتوافر السيولة، ونوع الإكساءات للمرافق العامة ومدى توافر الرفاهية والخدمات الإضافية في المباني، والغاية السكنية، أو الاستثمارية”.
كان المفترض أن تتولى شركة “دمشق الشام القابضة” تنفيذ المشروع والبناء، ولكن ما حدث للأسف الانتقال من متعهد إلى آخر، حتى “الإسكان” أعطت المشروع لمتعهد كبير، ثم لمتعهد فرعي، وثانوي، وأصبح في عمولات 15% على كل بيت للإسكان، طبعاً هذا مخالف للقانون ولكن لا أحد يهتم بهذه المخالفات
غالب عنيز – عضو سابق في مجلس الشعب ومجلس محافظة دمشق
كذلك؛ يوضح النابلسي أن الشركة “دعت عند تأسيسها عدداً من المستثمرين الذين يملكون الملاءة المالية والسمعة والخبرة، وجرى تأسيس عدد من الشركات وإبرام عقود للمقاولات، مما دفع المنطقة إلى طفرة استثمارية عالية خلال العامين 2017 و2018، جنى خلالها المالكون أرباحاً استثنائية من خلال ارتفاع قيمة أسهمهم وممتلكاتهم”.
ويختم مؤكداً أن “العقوبات الاقتصادية ألقت بظلالها على الشركة وأدت إلى تأخير تنفيذ العقود، ولا سيما بالنسبة للمستثمرين الذين لديهم استثمارات إقليمية وعالمية”.
“ماروتا” والعقوبات
في 17 حزيران 2020 أعلن مكتب مراقبة الأصول الأجنبية التابع لوزارة الخزانة الأميركية (OFAC) فرض عقوبات على شركات ومستثمرين في مدينة “ماروتا سيتي”، فأُدرجت “شركة دمشق الشام القابضة”، و”دمشق الشام للإدارة المحدودة” وهي كيان تنفيذي للشركة الأولى على قائمة العقوبات، بالإضافة إلى شركة “بنيان” الخاصة المساهمة المشتركة “لكونها مملوكة أو مسيطراً عليها بشكل مباشر أو غير مباشر من قبل (شركة دمشق الشام القابضة)، أو لكونها تعمل لصالحها أو بالنيابة عنها”.
وشملت القائمة شركة “روافد دمشق” الخاصة المساهمة، وشركة “ميرزا” التي أنشأتها شركة دمشق الشام القابضة”، فضلاً عن عدد من الأفراد على رأسهم محافظ دمشق عادل أنور العلبي، “لدوره في الإشراف على شركة (دمشق الشام القابضة)، ومشروع التطوير العقاري في (ماروتا سيتي)”.
ومن جهة أخرى، أعلن الاتحاد الأوروبي في بيان بتاريخ 1 حزيران رفع العقوبات الاقتصادية عن مستثمرين في مشروع “ماروتا سيتي”، هم معن رزق الله هيكل، وحيان محمد ناظم قدور، الشريكين في شركة “أكسيد للتنمية والاستثمار” التي شكلت مع “دمشق القابضة” شركة “المطورون”، ودخلت الأخيرة في استثمار “ماروتا سيتي”.
كما شمل القرار شركة “مطورين المساهمة الخاصة”، وهي مشروع مشترك بقيمة 17.7 مليون دولار أميركي بين “دمشق الشام القابضة” و”تجاوز للتنمية والاستثمار”، وتشارك في استثمارات “ماروتا سيتي” أيضاً، وأرجع الاتحاد سبب رفع العقوبات إلى أن هذه الشخصيات “أوقفت سلوكها الخاضع للعقاب”، وفقاً لما نقل موقع “عنب بلدي” عن البيان.
“المحافظة” تشتري بالليرة.. وتبيع بالدولار!
لم تتوقف معاناة السكان عند تشريدهم، بل امتدّت لتشمل قيَمَ بدلات الإيجار المقدمة لهم، وهي قيمٌ جرى تحديدها وفق تخمينات جامدة محسوبة على أسعار العام 2016، فيما تضاعفت أسعار الإيجارات عشرات المرات منذ ذلك الوقت، وتضاعفت معها البدلات الفعلية للإيجار.
يشرح محمد: “كنت أحصل على بدل إيجار بقيمة 400 ألف سنوياً في العامين 2016 -2017 (نحو 35000 ليرة شهرياً) في حين بلغ إيجار منزلي وقتها 75 ألف ليرة سورية شهرياً”. أما اليوم فلا يكفي هذا المبلغ لاستئجار “مرحاض تحت الدرج” على ما أكده لنا صاحب مكتب عقاري في قدسيّا.
يؤكد محمد أن تقييم المنازل لم يكن عادلاً؛ فـ”مثلاً خصصت المحافظة لشاغل بيت مساحته 70 متراً مربعاً بدل إيجار بقيمة 600 ألف ليرة سورية، ولشاغل منزل بمساحة 120 متراً مربعاً بدلاً بقيمة 350 ألف ليرة”.
فيما يؤكد غالب عنيز أنه مستحق السكن البديل الذي أخلي من منزل بمساحة 120 متراً مربعاً لا يزال يحصل حتى اليوم على بدل إيجار قدره 800 أو 900 ألف ليرة سورية سنوياً، و”هذا غير عادل” (كان هذا المبلغ يعادل نحو 1500 دولار في العام 2017، بينما باتت قيمته اليوم أقل من 60 دولاراً).
يرى المحامي رضا نقشبندي أن “بدلات الإيجار التي حددتها المحافظة لا توازي التضخم الحالي، لذلك كان يتوجب إعطاء الإيجارات كاملة (وليس على دفعات شهرية) أو استئجار عقارات مملوكة للمحافظة لصالح مستفيدي السكن البديل ريثما ينتهي المشروع”.
وخلافاً لقيمة بدلات الإيجار التي استمرت في الثبات، حرصت محافظة دمشق على رفع المبالغ التي تجبيها من مستحقي السكن البديل مقابل مساكنهم الموعودة، وبما يوازي ارتفاعات الأسعار في الأسواق.
يدفع مستحق السكن البديل 10% من القيمة التقديرية لفئة مسكنه عند الاستحقاق، و30% عند التخصيص، ويستكمل الباقي بموجب أقساط شهرية، مع احتمال أن يجد نفسه مطالباً بسداد دفعات أخرى.
باع قسم من المستحقين حصصهم وأسهمهم نتيجة عدم قدرتهم على دفع الالتزامات المالية المترتبة، وعدم تحديد موعد زمني لتسليم السكن، فضلاً عن تحملهم أعباء مادية بسبب اضطرارهم إلى السكن في شقق مستأجرة لا تكفي “بدلاتُ المحافظة” لتغطية إيجاراتها.
“تنفيذ المشروع بطيء جدا، يطلبون منّا دفع بالملايين ولا يحددون موعداً واضحاً للتسليم، الناس انضغطت عندما فُرض الإخلاء في ستة أشهر، ثم باعت الناس أسهمها بخسارة، في هذا الوضع من يستطيع دفع 100 مليون دفعة واحدة؟؟ ثم ستأتي دفعة ثانية معناها قد يكلفني السكن البديل مليار!!! وبمعنى: أنا انضحك علي”
إحدى المتضررات
ورث شاهر وأشقاؤه أسهماً من حصة والدتهم التي ورثتها بدورها عن والدها. يشرح شاهر: “الأرض ذات مساحة كبيرة وهي ملكية خاصة لجدي، اعتاد أخوالي وخالاتي زراعتها ثم شيد أبناء أخوالي منازل فيها”.
استحق الورثة أسهماً في المشروع الجديد مقابل ملكياتهم، باع أشقاء شاهر حصصهم بعد الإخلاء مقابل ليرة سورية واحدة فقط لكل سهم، أما شاهر الذي أمل بارتفاع الأسعار، فقرر التسجيل على سكن تجاري.
يبين غالب عنيز أن “تقدير قيمة السهم بليرة واحدة جاء من أجل الحسابات، وليس تقديراً فعلياً ودقيقاً”.
ويكشف أن سعر المتر المربع (بالهواء) في المقاسم التنظيمية بـ”ماروتا سيتي” 100 ألف ليرة، بينما يقدر السعر في المنطقة الثانية “باسيليا سيتي” بمبلغ 400 ألف ليرة سورية؛ أي أربعة أضعاف المنطقة الأولى.
“ادفع حالاً”..
في تشرين الثاني 2022، أعلنت المؤسسة العامة للإسكان تخصيص 522 مسكناً للمكتتبين على مشروع السكن البديل في محافظة دمشق، وذلك ضمن المنطقة التنظيمية الثانية (باسيليا سيتي). وأوضحت المؤسسة أن التخصيص يبدأ اعتباراً من 14 كانون الأول القادم، ولغاية انتهاء جلسات التخصيص في المكاتب المخصصة لإدارة المشروع في مديرية تنفيذ المرسوم 66 في المزة.
عدّلت المؤسسة إعلانها لاحقاً في ما يتعلق بالمدة الممنوحة لاستكمال مدفوعات التخصيص، فألزمت المُخَصّص باستكمال مدفوعاته بنسبة 30% من القيمة التخمينية للمسكن وفقاً للمساحة الفعلية لمسكنه، على أن يتم التسديد على ثلاث دفعات متساوية خلال ثلاثة أشهر من تاريخ التخصيص. وفي حال عدم استكمال المكتتب دفعات التخصيص كاملة خلال المدة المذكورة يلغى تخصيصه ويفقد حقه بتسلسل أفضليته، ويدرج اسمه ضمن تسلسل خاص بالمكتتبين المتأخرين عن تسديد التزاماتهم المالية على أن يسدد الأقساط الشهرية المترتبة عليه، وفي حال عدم الالتزام يلغى اكتتابه وفقاً للقرار رقم /1249/ للعام 2020 وتعديلاته.
ينص القانون السوري على أنه لا يجوز نزع الملكية الخاصة إلا مقابل تعويض عادل.. والدولة مُلزمة بالتعويض نتيجة في حال التأخر بتنفيذ المشروع نتيجة ظروف إدارية، أما إن كان التأخر نتيجة ظروف خاصة بالمالكين فالأمر مختلف ولا يوجد ما يستدعي التعويض.. المحامي رضا نقشبندي
دأب محمد على دفع الأقساط الشهرية لمدة سنتين. تراوح الأقساط المطلوب سدادها من مستحقي السكن البديل بين 20 و35 ألف ليرة سورية شهرياً بحسب مساحة السكن البديل المنتظر.
في مطلع العام 2023، تبلّغ المستحقون ضرورة المراجعة للبدء بالتخصيص واختيار الطابق، وعلى أساس المساحة يدفع مبلغ التخصيص، مع مهلة شهرين أو ثلاثة أشهر للدفع.
يقول محمد: “كانت الأرقام المطلوبة (مقابل التخصيص) كبيرة جداً، وصلت إلى 100 مليون ليرة سورية، لذا بعت أسهمي، وكذلك باع أخي حقه في السكن والأسهم واشترى منزلاً في منطقة معضمية الشام”.
باع محمد حقه في السكن البديل والأسهم بمبلغ 150 مليون ليرة سورية فقط، لعدم قدرته على انتظار السكن البديل، ولا يكفيه المبلغ لشراء منزل مؤلف من غرفتين وصالة كما يوضح، يردف قائلاً: “إلا إذا اشتريت في أطراف دمشق ما يعني مشقة المواصلات إلى مكان عملي في مركز المدينة”.
في العام 2020، أُلزم مستحقو السكن البديل بدفع 10 بالمئة من قيمة السكن البديل، وقدرت مؤسسة الإسكان وقتها سعر المتر المربع بمبلغ 550 ألف ليرة للمتر المربع مع أقساط شهرية تراوح بين 13، و33 ألف ليرة.
وفي نهاية العام 2022 تقرّر تخصيص 550 إشغالاً فقط بسعر 3 ملايين و550 ألف ليرة للمتر المربع (بزيادة 3 ملايين عن السعر المحدد سابقاً لكل متر)، كما تقرر أن ما تم سداده “لا يعتبر 10% من المبلغ المستحق كما كان مقرراً، بل هو مجرد 1% من المبلغ المستحق”، وفقاً لعنيز الذي يردف بالقول: “طبعاً هذا ظلم ومخالف للقوانين، إذ يجب اعتبار أن نسبة 10% مسددة”.
بدورها تشرح هزار أحمد أن سعر المتر المربع في السكن البديل كان أول الأمر بمبلغ 550 ألف ليرة، لكن المستحقين صدموا عندما رفعت المحافظة السعر إلى 3.5 مليون ليرة وقت التخصيص.
تقول هزار: “بمجرد حصول التخصيص يجب دفع 30% من قيمة منزلي بحسب القيمة التقديرية الجديدة، تطالب الجهات الحكومية الناس بدفع الملايين ليظلوا متمسكين بسكنهم البديل من دون إعطائهم موعداً للتسليم!”.
ترد “المؤسسة العامة للإسكان” على سؤال حول دورها في إدارة مشروع السكن البديل بأنها “تدير عملية الاكتتاب للمستحقين وفق القوائم الواردة في محافظة دمشق، بالتوازي مع التعاقد لبناء الوحدات السكنية المطلوبة، ومن ثم تخصيصها وتسليمها للمستحقين، على أن تؤمن محافظة دمشق التمويل اللازم للتنفيذ”.
وتحدد المؤسسة مدة تأمين السكن البديل بـ”ـثلاث سنوات اعتباراً من إعداد الأضابير التعاقدية الجاهزة للإعلان من قبل المحافظة”.
تبرر المؤسسة تغيير قيم الدفعات التي يدفعها مستحق السكن عن التخصص بـ”ما طرأ من تغيرات في تكاليف التنفيذ، انعكست على الكلفة التقديرية خلال الفترة الممتدة من تاريخ تقدير الكلفة في بداية العام 2020 وحتى تاريخ التخمين في العام 2023″.
تعتقد هزار أحمد أن الهدف من تعقيدات السكن البديل هو الضغط على الناس بوسائل مثل بدلات الإيجارات المتدنية، وعدم تأمين المأوى قبل الإخلاء، والنتيجة “بيع الأغلبية أسهمها بسعر قليل”. يتفق صالح مع ما تقوله هزار: “أمام هذه القيم الفاحشة، اضطر الناس إلى بيع دفاتر السكن البديل في السوق”.
من يشتري “المستقبل”؟
تفيد مصادر خاصة مطلعة على الملف بأنّ التوجهات نحو “إعادة تنظيم بعض المناطق العشوائية في دمشق كانت موضوعة على الطاولة قبل العام 2011”. ويبدو واضحاً أن هذه التوجهات تنسجم مع المسار الذي انتهجته السلطات السورية في العقد الأول من الألفية الحالية، من الانحياز الكامل إلى طبقات اجتماعية ثرية، ومستثمرين، ورجال أعمال، والإعراض كليّاً عن مصالح الطبقة الوسطى (التي بادت) والطبقات الأشد فقراً، ومن المفيد هنا على سبيل المثال تذكُّر مشروع “حلم حمص“، الذي يبدو أن هناك توجهات لإعادة إحيائه.
حين صدر المرسوم 66 في العام 2012 كان هناك اعتقاد سائد في دوائر صنع القرار بأنه “يمكن تنفيذ مشروع ضخم استثماري تجميلي للمناطق المخالفة في محيط دمشق يراعي مصالح الطبقات الثرية”، وينعكس هذا في المعلومات الترويجية التي يقدمها موقع “ماروتا سيتي” الإلكتروني من أن المنطقة “وسط تجاري جديد لدمشق، وتتنوع أبراجها وأبنيتها بين المساكن الفاخرة والمتاجر والفنادق والشقق الفندقية والمطاعم والمقاهي والمؤسسات المالية والمصرفية والصحية الاختصاصية والخدمات الثقافية والمدارس التعليمية التي تراعي العمارة الخضراء”. و”ستشكل المنطقة متنفساً لمدينة دمشق من خلال وفرة المساحات الخضراء والمسطحات المائية، كما تتميز المنطقة بوجود طرق خاصة للباصات والدراجات الهوائية وبوجود ترام كهربائي، وشبكات تغذية للغاز، والكبلات، والألياف البصرية”.
يقول معاون سابق لأحد الوزراء فضل عدم الكشف عن اسمه، إنّ “التعويل كان كبيراً على مشاركة مؤسسات تطوير عقارية ومستثمرين بارزين من إحدى الدول الخليجية في الاستثمار بقوة”. بل “كانت هناك وعود واتفاقات شفويّة أيضاً”، يضيف.
ما حصل على أرض الواقع أنّ هذه الوعود سرعان ما تبخرت مع صدور “قانون قيصر” الذي فرض عقوبات أميركية صارمة، ثم عقب دخوله حيز التنفيذ بجديّة هددت مصالح أي شركة أو حكومة تتعامل اقتصاديّاً مع دمشق.
شكلت هذه التغيرات شكلت فرصة لفئات أخرى من “المستثمرين” منها طبقة أثرياء الحرب، وبعض رجال الأعمال المتنفّذين، للدخول على الخط بقوة، والاستثمار في هذين المشروعين اللذين “سيعودان بأرباح فاحشة ولو على المدى البعيد”، بحسب المصدر نفسه، لا سيما أن قدرة هذه الطبقات على الاستثمار خارج سوريا باتت شبه معدومة تحت سيف العقوبات.
ضمن هذا الإطار، تشكل عقارات “السكن البديل” فرصة سانحة للتربّح لأسباب عديدة، على رأسها أن الأسعار النهائية لهذه المساكن ستكون أقل من سواها، لأن “محافظة دمشق ملزمة بطرحها بسعر التكلفة أو أعلى منه بقليل” وفق المصدر ذاته، فضلاً عن أصحاب بيوت “السكن البديل” ينتمون جميعاً إلى فئات لا طاقة لها على تحمل الأسعار التي تستمر في الارتفاع تبعاً لتهاوي قيمة الليرة، ولربط “محافظة دمشق” المبالغ المطلوبة بالقيم السوقية الفعلية لأسعار مستلزمات البناء.
كما أن الضغوط المستمرة على هذه الشريحة، وعدم الثقة بتسلّم المساكن في المواعيد المزعومة، وانعدام الشفافية، وتنامي الترهل الإداري والفساد، كلها عوامل تدفع المستفيدين من السكن البديل إلى بيع حقوقهم، على أمل شراء شقق في مناطق على أطراف العاصمة.
تقدر مصادر عقارية مهتمة بالمنطقة عدد دفاتر السكن البديل التي بيعت بـ”أكثر من ألف” حتى الآن. ومن اللافت هنا، أن معظم عمليات البيع التي حاولنا تتبعها تجري من خلال مكاتب وشركات عقارية تحرص على إخفاء هوية المشترين.
بعد محاولات عديدة وافق صاحب أحد المكاتب العقارية في المزة على التحدث إلى أحد معدي هذا التحقيق داخل سيارته، بعد أن اشترط عليه ترك هاتفه الخلوي وحقيبته الشخصية في المكتب، ثم رفع صوت المذياع إلى أقصى حد، وأجاب هامساً باقتضاب عن بعض الأسئلة. يوضح المصدر أنه مرتبط باتفاق مع “محامٍ كبير” ينص على منحه عمولة كبيرة “مقابل كل دفتر أستطيع الاتفاق مع صاحبه على شرائه”، وأنّه يمنح بدوره “عمولة لموظفين على صلة بالمشروع، في المحافظة وغيرها، مقابل كل مستفيد يعرفون أنه يريد بيع دفتره ويصلونني به”.
يؤكد صاحب المكتب العقاري أن المحامي الذي يتعامل معه “يعمل لصالح شخصيتين سوريتين من العيار الثقيل تقيمان خارج سوريا، إحداهما سيدة من عائلة مرموقة، والشخصية الأخرى مسؤول بارزٌ سابق”. وبرغم إلحاحنا لمعرفة تفاصيل أكبر، امتنع المصدر عن تقديم أي إيضاحات إضافية، ورفض التعليق على عدد من الأسماء التي ذكرناها له، واكتفى بالقول “الشغلة أكبر مني، ما بقدر بفتح تمي، فيها قص روس”.
لم يحصل السكان على بيوتهم البديلة الموعودة حتى اليوم، رغم مرور نحو تسعة أعوام على بدء عمليات الإخلاء. كانون الأول 2023 – “سيريا انديكيتور”
خسارة وتشتيت شمل
تقول المادة 15 من الدستور السوري: “لا تنزع الملكية الفردية إلا للمنفعة العامة ومقابل تعويض عادل وفقاً للقانون”. وتؤكد المادة 771 من القانون المدني السوري أنه: “لا يجوز أن يحرم أحد ملكه إلا في الأحوال التي يقررها القانون، وبالطريقة التي يرسمها، ويكون ذلك في مقابل تعويض عادل”.
يتمنى محمد لو أنه حصل على تعويض عادل مباشرة وقت الإخلاء لكي يشتري منزلاً في منطقة أخرى قريبة. يحسب الرجل متحسراً قيمة خسارته. يقول: “كان سعر المسكن في معضمية الشام بمساحة 240 متراً مربعاً 17 مليون ليرة، ويبلغ سعره الآن 750 مليون ليرة. طوال عمري لن أحصل على مبلغ كهذا، لقد خسرنا كل شيء …كل شيء”.
يتلهّف محمد على أيامه التي قضاها وعائلته وجيرانه سابقاً: “كنا جميعاً نسكن في المنطقة ذاتها من خلف الرازي حتى المتحلق الجنوبي، أما الآن فتفرّق شملنا وأصبح كل شخص في مكان بعيداً عن الآخر”.
موقع سيريا انديكتور
تحقيق: سها شرهان، نهال عرب (إسمان مستعاران) إشراف: علي عيد - صهيب عنجريني