لا تشبه مكتبة داريا أي مكتبة أخرى في عالم المكتبات، لقد اعتاد رواد هذه الأمكنة أن تكون ذات فضاءٍ واسعٍ يميزها، وعلى سقوف عالية، تصل رفوف الكتب بينها وبين الأرض! إضافة إلى جوهر المسألة؛ في المكتبة سيجد القارئ غالباً كل ما نُشر في بلده من كتب، وجزءاً كبيراً مما يُنشر حول العالم!
كونية المكتبة وطقوسها، وطبيعة محتوياتها، كانت موضوعاً أثيراً لدى المعلم القصصي خورخي لويس بورخيس، وربما سبقه الألماني كورد لاسفيتز الذي كتب نصاً بعنوان “المكتبة الكونية”، لكن أثر صاحب قصة “مكتبة بابل”، سيخرق المخيلات حول العالم، ليصبح الحديث عن المكتبة، أي مكتبة، ممر عبور لتذكر الثيمة البليغة التي انطوت عليها كتابات بورخيس المتعددة حولها: الكون مكتبة، وجوهر الحقيقة لديه هو في الكتب، وفي قراءتها، وتأليفها، وفي الحديث عنها، وهكذا ستصبح حياتنا مرتبطة بالكتب، ولا بأس من تأمل أمنية الرجل؛ أريد مكتبة في الجنة!
وعلى الذروة المقابلة لهذه الفكرة الكونية، كان على شباب مدينة داريا في ريف دمشق، وقد أحكمت قوات النظام الأسدي حصارها حولهم، أن يسعوا لجمع مكتبات البيوت المقصوفة، المتهدمة، حيث كان مشهد الكتب بصفحاتها المشقوقة، وأغلفتها المنزوعة عنها، يشبه بالنسبة لهم، قتل الرصاص لإنسان آخر!
وعلى مدار سنوات الحصار، كانت مكتبة داريا تتسع، فكلما قضمت نيران آلة حرب النظام على السكان المحاصرين بيتاً، كانت الرفوف في القبو تستقبل سكاناً مستجدين هم الكتب!
منذ بداية الحصار، شاهدت في صفحات الثورة السورية، مشاهد عن الأنشطة الثورية المدنية التي قام بها شباب داريا، ولا سيما قصة جمعهم للكتب، لكنني قرأت للمرة الأولى عن هذه المكتبة في تحقيق نشر على موقع إذاعة روزنة، وقد تحدّث عن سرية موقعها، لأن أصحابها تجنبوا الإعلان عنه كي لا يُستهدف مقرها من قبل النظام.
لكن هذه السرية لم تكن لتمنع زيارتها من قبل الثوار المحاصرين، وكذلك لم تلجم شهوة الحديث عنها للإعلام خارج الحصار والحدود، وهكذا ستتحول القصة الصحافية إلى عنوان من عناوين صمود شباب مدينة “أخوة العنب والدم”، ومؤشرٍ على طبيعة وعيهم الفكري، الذي طالما كان موضع تشكيك من قبل أجهزة النظام الإعلامية، التي كانت تصمهم بالسلفية الجهادية، وتؤطرهم ضمن العصابات الإرهابية!
ستثير حكاية المكتبة عدداً غير قليل من الصحافيين حول العالم، حيث سيقوم هؤلاء بتدبيج الأخبار والتقارير عنها، من دون أن يؤدي ذلك إلى جعلها أيقونة تثير أصحاب المكتبات الكبرى، وهم الفئة التي يتوجب على أفرادها منطقياً التفاعل مع القصة، ودعمها معنوياً على الأقل!
ومع تفاقم الوضع الإنساني سوءاً، واشتداد وحشية الحصار، وعنف سياسة الأرض المحروقة، سيُفرض الرحيل عن المدينة على المحاصرين، وستترك المكتبة لمصيرها المحتوم، حيث ستقع المجلدات والكتب المعتنى بها طيلة سنوات بين أيدي عفيشة النظام، وسيختفي أثر الأصابع التي فتحت صفحاتها، كما ستختفي رائحة الورق التي كانت حنونة وطيبة على كل من غامر ليقرأ فيها!
التفاصيل المؤثرة هذه، لم تكن تفاصيل قصصية، بل كانت نسجاً من الوقائع المهمة في سياق ثورة الشباب المدني السوري، وقد حدث ما يشبهها في غير مكان، حيث كان الشباب يحاولون حماية المكتبات في المراكز الثقافية، في المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام، بينما كان ثمة أنشطة متعددة في الشمال السوري، لنشر الكتب بين القراء، عبر سيارات جوالة، في تحدٍ واضحٍ لسياسة بعض الفصائل المتطرفة التي كانت ترى أن كثيراً من هذه الكتب “شركية” وتتعارض مع الدين، وفي تحدٍ أوسع لسياسة التنميط التي اتبعها الإعلام العالمي على منوال الإعلام الروسي وشريكيه الإيراني والأسدي، حيث تمت صياغة معادلة إجرامية تقول: مناطق تسيطر عليها فصائل متشددة = بيئة حاضنة!
وضمن هذا المناخ، يصبح الحديث عن المكتبات السورية، وخاصة تلك التي نتحدث عنها ههنا، جزءاً من معادلة أوسع وأشمل، وهي طبيعة وتكوين الثورة السورية المدنية الديموقراطية، وشبابها الذين كانوا هدفاً لكل من النظام، والفصائل المتشددة، على حد سواء.
وسيكون من الملفت والمثير أن تشهد المكتبة السورية حول العالم، أي سلسلة الكتب التي تتحدث عن سوريا، صدور كتابين تتبّعا حكاية مكتبة داريا، أولهما كان بقلم الفرنسية من أصل إيراني دلفين مينوي، حمل عنوان “مهربو الكتب- مكتبة سرّية في سوريا”، وصدر بالفرنسية نهاية عام 2017، قامت مؤلفته لاحقاً بإخراج فيلم تسجيلي عن الموضوع ذاته، حمل عنوان “داريا، مكتبة تحت القصف”، صدر في 2019، وجرى عرضه على شاشة التلفزيون العربي وتلفزيون سوريا.
أما الكتاب الثاني، فقد جاء بقلم المراسل البريطاني مايك طومسون، حمل عنوان “مكتبة سوريا السرية: القراءة والخلاص في مدينة تحت الحصار”، وصدر عام 2019.
طبعاً يشعر السوريون الذين ما برحوا يلمسون انحسار الاهتمام العالمي بقضيتهم، وبتفاصيلها الإنسانية بالسعادة حيال صدور هذه المنتجات عن ظاهرة ملفتة، مثل مكتبة داريا، فزيادة الخير هي خير، كما يقولون، لكن وبعد انقضاء لحظة الفرح، لا بد سيرد على السطح سؤال يتعلق بسر هذا الزخم، وأسبابه، ومؤدياته في المحصلة.
وطبعاً لا يمكن بأي حال من الأحوال التعاطي مع أصحاب هذه المنتجات وغيرهم، من زاوية التشكيك بنواياهم، فهم وبشكل واضح يعلنون دعمهم للحراك الثوري، ولا سيما في أفقه السلمي المدني الديموقراطي، كما أنهما مارسا عملاً شاقاً في تتبع الحكاية، والتواصل مع أصحابها، وكل هذا يثبت وبشكل واضح أن القضية التي عملا عليها كما غيرهم، هي قضية عادلة وتستحق أن يبذل في سبيلها الجهد والوقت والمال!
ولكن ما يفرض نفسه ههنا، هو التفكير بالسبب الذي يجعل البريطاني طومسون يعيد العمل على القضية ذاتها التي اشتغلت عليها الفرنسية مينوي!؟
هل خلت الحقيبة السورية من موضوع حار مشابه، يمكن الاهتمام به، ليضيء على جانب من جوانب المسألة، بعد أن انتهت القصة الديرانية في عام 2016؟
هل يتصل هذا الاهتمام، ببواعث كامنة في العقل الأوروبي الذي لا يمكن له بأي حال الخروج عن التفكير بالمواضيع الخفية، ولاسيما تلك التي توصف بالسرية؟!
ألا تكشف عنونة المؤلفين لكتابيهما بعنوانين يحتويان على الكلمات المفتاحية المثيرة “سوريا، مكتبة، سرية” عن نزعة استشراقية من نوع ما، تتكشف تفاصيلها في السياق، حيث يستغرب كل منهما العادي واليومي كفعل القراءة، والحفاظ على الكتب والممتلكات العامة، وكذلك التعاطي مع محتويات الكتب كغذاء للروح، ويحملانه إلى الواجهة، ليتم الاحتفاء به، وكأن ما يجري الآن في ظروف الحرب والحصار، لم يحدث سابقاً قبلهما، وخاصة في مدينة لطالما اشتهرت بمثقفيها ونشاطهم العام!
صحيح أن فيلم دلفين مينوي الذي جاء بعد كتابها، كان أكثر انحيازاً لصوت الشباب أنفسهم، وطريقة بنائهم لسرديتهم الحقيقية، لكن الاهتمام بالكتاب فعلياً بدا أكبر من الاهتمام بالفيلم. هنا ربما يمكن لنا، أن نحيل هذا الاهتمام المتطابق نوعاً ما، إلى هاجس فكرة المكتبة، ذات الخلفية البورخيسية.
ولكن هل كانت رواية القصة، تتبع أسلوب إمتاع القراء والتركيز على تسليتهم، أم أنها كانت تنوي الاحتفاء بصمود هؤلاء الشباب المحاصرين، والانتصار لخطاب ثورتهم السلمية؟ رغم أننا كقراء سوريين نميل إلى الاحتمال الثاني، إلا أن استخدام أدوات الأسلوب الأول، يشعِر الكثيرين بأنهم لم يكونوا سوى موضوعات مثيرة تبحث عن قارئ من هواة الصنف!
وفي هذا ما يحبط حقاً، إذ طالما شعر السوريون بأن قضيتهم التي باتت تنسى مع الوقت، لم تحظ بما تستحق، ولا سيما بعد أن إلتهم قتل النظام للمدنيين الجزء الأكبر من قصتهم، ومن ثم جاءت داعش لتلتهم ما بقي منها، حين صارت مرادفاً من مرادفات ثورتهم في بعض الفضاء الإعلامي العالمي!
الكاتب : علي سفر_المدن