بدأ الآن يتكشف ما حدث لمئات الضحايا في غرف التعذيب السورية بفضل جهد جديد للتعرف على الجثث من عشرات الآلاف من الصور التي تم تهريبها من دمشق قبل سبع سنوات.
وبالنسبة لأسر هؤلاء الضحايا تمثل صورة لجثة تكسرت عظامها وعليها رقم نهاية رحلة البحث.
عثرت أم منذر ياسين (58 عاما) على صورة ابنها جميل في الشهر الماضي بعد فحص عدد لا حصر له من الصور لجثث مشوهة. وقالت إن الضحايا ماتوا ”جوعى وعرايا“.
ظل جميل مهندس الكمبيوتر مفقودا منذ إحدى ليالي يونيو حزيران 2011 عندما ألقت الشرطة السرية القبض عليه من شقة الأسرة في دمشق. وفي الصورة التي اكتشفتها أمه كانت عيناه مفقوءتين وساقاه مكسورتين.
قالت في عمان التي لجأت إليها هي وزوجها منذ فرارهما من سوريا في 2013 إنه كان من الأفضل لابنها أن يموت برصاصة لو أنهم أطلقوا عليه النار بدلا من أن يعاني ما عاناه.
وقال زوجها الذي يعمل طبيبا ”قتلونا مرتين“ الأولى عند إلقاء القبض عليه والثانية عندما شاهدت الأسرة الصور. وتساءل الأب ”ألسنا بشر؟“.
كانت صورة جميل بين 53275 صورة هربها على أقراص من سوريا للخارج مصور سابق بالجيش السوري أطلق عليه الاسم الكودي قيصر وهرب من سوريا في أغسطس آب 2013. وكانت مهمته تتمثل في تسجيل حالات الوفاة في السجون العسكرية.
وقال بعض الأصدقاء إن قيصر يعيش متخفيا في بلد لم يتم الكشف عنه خوفا من التعرض للانتقام منه ومن عائلته. ولم تستطع رويترز على الفور الوصول إليه للتعليق.
والآن وبعد سنوات من الاهتمام الذي أثارته صور قيصر عادت الأضواء لتسلط عليها من جديد. وسرى مفعول أشد عقوبات أمريكية على سوريا في يونيو حزيران الماضي على ما قيل إنها جرائم حرب ارتكبت بحق السكان المدنيين وذلك بموجب قانون سمي باسم قيصر.
ولم يعلق الرئيس بشار الأسد مباشرة على صور قيصر منذ مقابلة عام 2015 وصفها فيها بأنها إدعاءات بلا أدلة.
ولم ترد وزارة الإعلام السورية ولا البعثة السورية في الأمم المتحدة على طلبات من رويترز بالبريد الإلكتروني للتعليق على صور قيصر والأدلة على التعذيب المنهجي.
وتعتقد جماعات حقوقية إن صور قيصر تتضمن صورا لعدد 6785 معتقلا معظمهم تعرض للتعذيب على أيدي السلطات السورية في الشهور الأولى من الانتفاضة التي تطورت إلى حرب أهلية أصبحت الآن في عامها التاسع.
وقال فاضل عبد الغني رئيس الشبكة السورية لحقوق الانسان ومقرها الدوحة إن حالة الجثث التي تعرض أصحابها للتعذيب والتشويه والتجويع تجعل من الصعب التعرف عليها. وتقول الشبكة إنها حددت هوية 900 ضحية حتى الآن.
ومع تجدد الاهتمام بدأ حقوقيون حملة جديدة لتحديد هويات القتلى.
وكانت الأضواء سلطت على الصور للمرة الأولى في العام الذي هرب فيه قيصر من سوريا إلا أنه بعد فرض العقوبات تم نشر الصور من جديد على بعض منصات التواصل الاجتماعي الخاصة بالناشطين الأمر الذي منح الأسر فرصة جديدة لمعرفة مصير أحبائها.
تجدد الحزن
تقول الفنانة والمعلمة السورية فداء الوعر التي أُخذ شقيقها محمد مختار البالغ من العمر 19 عاما عند حاجز أمني في حمص في العام 2012 إن العثور على صورته قضى على أمل الأسرة في رؤيته على قيد الحياة مرة أخرى.
وقالت الفنانة الشابة ”أراه في أحلامي حيا وأنه سيرجع“. وأضافت أن حزن الأسرة عليه تجدد عندما رأت الصورة لأنها كانت تأمل دائما أن يأتي اليوم الذي يطلق فيه سراحه.
وتعود فداء بذاكرتها إلى اليوم الذي توسلت فيه الأسرة لابنها الشاب ألا يذهب إلى المنطقة التي كان المتظاهرون يحتجون فيها في المدينة على حكم الأسد في الأيام الأولى للانتفاضة والتي كانت قوات الأمن تلقي فيها القبض عشوائيا على الشبان عند الحواجز الأمنية.
وقالت فداء إن شقيقها بالنسبة للسلطات مجرد رقم موضوع على جبهته ولا شيء غير ذلك.
وبعد تسع سنوات من انطلاق شرارة الحرب التي سقط فيها أكثر من نصف مليون قتيل وأدت إلى تشريد ما يزيد على نصف سكان سوريا، استعادت حكومة الأسد في السنوات الأخيرة وبدعم من روسيا وإيران معظم الأراضي التي كانت في وقت من الأوقات تحت سيطرة مقاتلي المعارضة.
ويقول الأسد وحلفاؤه إنهم حققوا النصر في الحرب وإن الوقت حان لكي يسمح العالم لسوريا بإعادة البناء. غير أن العقوبات الأمريكية الجديدة التي تسري على أي دولة تبرم تعاملات مع دمشق تجعل ذلك أمرا صعبا إن لم يكن مستحيلا.
وقالت المحامية سارة كيالي الخبيرة في الشأن السوري بمنظمة هيومن رايتس ووتش التي يوجد مقرها بالولايات المتحدة والتي أجرت دراسة عن الصور إن هذه الصور تجعل من المستحيل إنكار استخدام التعذيب الممنهج في نظام سجون الأمن السورية.
وقالت كيالي في عمان ”لقد أظهروا لنا دليلا لا يمكن دحضه على أن الحكومة السورية احتجزت وعذبت الآلاف الذين اختفوا، والذين كانت تنكر وجودهم، وأنها عذبتهم حتى الموت“.
وتعرفت مريم الحلاق على صورة ابنها أيهم (25 عاما) الذي كان طالبا بالدراسات العليا في طب الأسنان عندما تعرض للاختطاف من حرم جامعة دمشق في نوفمبر تشرين الثاني 2012 لتنهي بذلك سنوات الشك.
وقد أمضت أكثر من 17 شهرا وهي تدق أبواب كل الإدارات الحكومية بحثا عن شهادة وفاة لابنها.
وقالت مريم في شقتها ببرلين ”الحمد لله أنه مات في البداية ولم … يتعرض للتجويع حتى يصبح هيكلا“.
وقال زميل لابنها في الكلية اعتقل معه وتم الإفراج عنه فيما بعد إن أيهم تعرض للتعذيب لمدة ساعتين على الأقل قبل أن يفقد الوعي بعد أن تعرض للضرب على رأسه بقضيب معدني. وبعدها توقف التعذيب.
ولفظ أيهم أنفاسه الأخيرة بين ذراعي زميله بعد خمسة أيام من القبض عليه. وفي صور قيصر لجثته كان على جبهته ملصق يقول إن الجثة رقم 320 من مركز الاحتجاز رقم 215.
وفي معسكر للنازحين في إدلب الخاضعة لسيطرة المعارضة عثرت جورية علي (74 عاما) أخيرا على صورة لابنها جمعة الذي تم إنزاله من حافلة عامة بالقرب من القطيفة على أطراف دمشق وهو في طريقه إلى العمل في العاصمة.
قالت الأم الملتاعة ”يا ليتنى مت ولم أر تلك الصورة. لم يكن هناك من هو أحن منه“.
وكل يوم منذ اختفى قبل ثماني سنوات كانت جورية تتطلع إلى الباب يحدوها أمل خاطف أن يظهر فجأة.
وتقول جورية ”الله يحرمهم من شبابهم كما حرموا ابني من شبابه“.
المصدر: رويترز