لم يعد خافياً على أحد أن كل محاولات تحريك عجلة الحل السياسي في سوريا تصطدم دائماً، أو تفرغ من جدواها، بمراوغات النظام وتنصله ومماطلته وهو ما سماه وزير خارجيته في فترة مبكرة بسياسة الإغراق في التفاصيل، التي استطاع النظام من خلالها، وعلى مدى سنوات، التهرب من كل الاستحقاقات وإفشال مهام المبعوثين الأمميين المتعاقبين وتعطيل كل مسارات التفاوض والحل، فهل ستكون مقاربة اللجنة الدستورية مختلفة؟
اللجنة الدستورية هي جزء من القرار 2254 الذي نص على وضع جدول زمني لدستور جديد، وهي إحدى السلال الأربع للحل، وعقب صدور قرار مجلس الأمن هذا، كان الحديث يجري عن سقف زمني من ستة أشهر لوضع دستور، لكن مدرسة الإغراق في التفاصيل جعلت المدة بين الجولة الثانية والثالثة وحدها تسعة أشهر، وسلوك النظام في الجولتين أوصل الجميع إلى حد أننا اعتبرنا مجرد عقد الجلسات أمر إيجابي، وعدم انهيارها إنجاز، وتفسير طروحات النظام بخصوص الهوية الوطنية على أنه ضمن جدول الأعمال، يعد تقدماً معقولاً.
هدف النظام أكثر من واضح وهو الوصول إلى 2021 دون دستور وإجراء انتخابات تجديد البيعة لبشار وفق الدستور الحالي، وللتذكير فإن مصطلح تجديد البيعة هذا يستخدمه النظام قبل داعش بعقود، النظام يعيش اليوم نتائج العقوبات الأميركية خاصة بعد قانون قيصر، وهو واقع أيضاً تحت ضغوط روسية واضحة وصلت لحد وجود وفد روسي يعسكر في كواليس جولة جنيف الأخيرة ليضمن أنه لن يفجر الجولة الثالثة كما فعل في سابقتيها، كما أصبح من غير الخافي على أحد أن النظام ما كان ليحضر جولات الدستورية لولا الضغوط الروسية.
وعمد وفد النظام في هذه الجولة الأخيرة، وهي الثالثة بعد توقف دام تسعة أشهر كما ذكرنا، من جديد إلى أسلوب المماطلة وتتضيع الوقت والتصعيد دون أن يوصل الأمور للانهيار هذه المرة، والذي ستكون عواقبه مزيدا من العقوبات الأميركية والغضب الروسي، فسمى وفده نفسه بالوفد الوطني نافياً ضمناً الوطنية عن الآخرين حتى المعارض القادم من دمشق، وفي نفس الوقت كرر عدم تمثيله لحكومة النظام، ثم أراد أن يدخل الجولة في جدل عقيم حول تفسيره للهوية الوطنية، وإن ذلك يأتي في سياق جدول الأعمال ثم حرص على التأكيد أنه لم يحصل أي تقدم، أي أنه أنجز المهمة وهي النتيجة التي يؤكد عليها في نهاية كل جولة.
المعارضة اختارت مبكراً خيار التفاعل مع كل القرارات الدولية والمبادرات لتطبيقها، وأبدت كل الفاعلية والمرونة السياسية والجاهزية الفنية في كل المسارات والمقاربات على أمل إيقاف الدماء والحل السياسي وإنقاذ المعتقلين، وحرصت على أن لا تكون عثرة ولا معطلاً في أي حل وأن تكسب في توجهها هذا المواقف السياسية والرأي العام الدولي، وكذلك فعلت في مسار اللجنة الدستورية، رغم أنها كررت دائماً قناعتها بأن النظام غير جاد ومعني فقط بالمماطلة وكسب الوقت، وفي هذه الجولة أيضاً حرصت على دفع الأمور للأمام على أمل تجاوز عقبات ومناورات النظام واستفزازاته للوصول لمناقشة المضامين الدستورية والبدء بكتابة الدستور.
أما السيد غير بيدرسون ومن موقعه كمبعوث حريص على استمرار العملية والإبقاء على النوافذ والنهايات المفتوحة وكدبلوماسي مخضرم، قال إن تقدماً حدث دون أن يحدد ما هذا التقدم واستدرك أن الخلافات لا زالت كبيرة أيضاً دون أن يستعرض هذه الخلافات، كما أنه قال أن الثقة المتبادلة تحسنت، بينما أكد على عدم حصول أي تقدم في إجراءاتها وخاصة قضية المعتقلين والمغيبين قسرياً.
إن المزيد فقط من العقوبات والضغط هو ما سيدفع النظام للتعاطي بجدية، لكن بالتأكيد هذه الجدية لن تصل إلى مرحلة الانخراط .. وهو الذي يعلم جيداً أن أي حل حقيقي في سوريا يعني رحيله
وبالنظر إلى ما سبق وإلى معرفتنا بهذا النظام فإن هدف الوصول إلى العام القادم دون دستور يبدو أنه السيناريو الأرجح، وإن تغيير مداخل الحل من بعد كل هذه التجارب والمسارات لن يجدي إذا ما اقتصر الحراك السياسي على المعطيات السابقة التي لن يكون نصيبها من النجاح بأفضل من مصير المحاولات السابقة، وهذا الذي نريد أن نسميه تقدماً في الجولة الثالثة ما كان ليتم لولا العقوبات والضغط الروسي، وعليه فإن المزيد فقط من العقوبات والضغط هو ما سيدفع النظام للتعاطي بجدية، لكن بالتأكيد هذه الجدية لن تصل إلى مرحلة الانخراط في هذا المدخل من الحل أو سواه وهو الذي يعلم جيداً أن أي حل حقيقي في سوريا يعني رحيله، وهو يعي جيداً أن مسألة الدستور هذه المرة ليست مجرد تغير شكلي يجريه كما يغير حكوماته ويعيد تدويره أشخاصها الذين يدفع بهم للواجهة ثم يحملهم وزر كوارثه، وهو بالتالي لن يجازف بالوصول إلى دستور قد لا يستطيع هذه المرة ابتلاعه.
والنظام بالتالي لن يسير بجدية في مسار يفضي إلى رحيله، وهو الذي فعل كل ما فعله ليبقى، فهذا احتمال لا أعتقد أنه موجود ضمن خيارات النظام.
ونحن سنجد أنفسنا بعد عام نبحث عن مدخل جديد بدأ البعض منذ الآن يلمح أنه عبر سلة الانتخابات، وبعد أن يفشل هذا المسار أيضاً لذات الأسباب، سنعود إلى دائرة الحقيقة أن من دفعوا النظام بالضغط والعقوبات إلى اجتماعات اللجنة وقبلها إلى جولات جنيف ومسارات التفاوض، عليهم أن يدركوا أنه لا مناص ولا مهرب من حقيقة أن هذا النظام لا يمكن أن تبقى سوريا إن بقي ولا حل في سوريا بوجوده، ولا سبيل للحل إلا برحيله، والعكس صحيح أنه أي من المسارات أو المداخل كان يمكن أن يكتب لها النجاح في حال كان رحيل النظام في بدايتها أو نهايتها لكن بأدوات حقيقية وليس فقط بمشاريع سياسية فضفاضة يراها البعض من باب التنصل أو ملء الفراغ أو لتحقيق نقاط في التجاذبات الدولية حول سوريا وباقي ملفات الشرق الأوسط.
هذا النظام المتهالك ما كان ليستمر .. ويتهرب كل هذه السنوات لولا أنه يشعر بأنه في مأمن من المحاسبة، وأن أفعاله لا تُقابل بالجدية وليست من بين أولويات الفاعلين
أما قصة العجز في مواجهته فهي لا تنطلي على أحد، خاصة وأن هذا النظام المتهالك ما كان ليستمر أو حتى يقوم بما قام به وأن يتنصل ويتهرب كل هذه السنوات لولا أنه يشعر بأنه في مأمن من المحاسبة، وأن أفعاله لا تُقابل بالجدية وليست من بين أولويات الفاعلين، فراهن على الوقت وتغيير المعطيات، لكن الثمن كان دولة فاشلة وسيادة مستباحة وشعبا مهجرا وفقرا وأمراضا وعقوبات، جعلت من سياساته هذه وبالاً على الوطن وعلى الجوار والعالم، الذي نأمل أنه قد ذاق ذرعاً به بعد كل ما جرى وفقد الأمل من أنه يمكن أن يساهم في الحل بأي شكل من الأشكال، حتى الذين كان من بين أهدافهم إعطاء هذا النظام الفرصة الكافية لتدمير البلاد وإيصالها إلى ما وصلت إليه عليهم أن يعوا أن استمراره وخطره على وجود سوريا كدولة واحتمالات التفتت والتقسيم قد لا تأتي بالنتائج التي يرغبون بها، بل باحتمالات مفتوحة لا تحمل في طياتها إلا مزيدا من الآلام والنتائج الوخيمة على المنطقة والعالم، وأنه لابديل من إعطاء الفرصة للشعب السوري بلملمة جراحه وفتح طريقه للمستقبل وطي صفحة الماضي، وليس الدستور في ذلك سوى المفتاح لكنه يمكن أن يكون المدخل أيضاً والمخطط لبناء الوطن إذا ما عزمنا على إخراج الفيل الذي سد كل الدروب وأعاق كل الحلول.
سوريا والسوريون جميعاً تواقون لدستور يحكم دولتهم ويفتح الطريق لمستقبل لا استبداد فيه ويتعاقب على خدمة الشعب وفقه رجال وطنيون يأتون بانتخابات نزيهة فيؤدون الواجب ويمضون، وهم لا تنقصهم الوطنية ولا الخبرات ولا الإرادة لكتابة هكذا دستور، لكن ينقصهم أن يخرج آل الأسد وزبانيتهم من حياة السوريين مرة وإلى الأبد لتعود سوريا لكل أبنائها لا إقطاعية لعائلة ولا امتداد لمشروع طائفي ولا حديقة خلفية وميناء لأحد.
عبد الباسط عبد اللطيف_موقع تلفزيون سوريا