هل يجب أن تنبطح أعضاء النساء أمام ديكتاتورية القوالب الجاهزة فقط لأنهن ينتمين إلى “الجنس الثاني” ومعايير الجمال المتصلبة الصدئة؟ الإجابة في قصة الكاتبة بعد اكتشافها أنها تحمل متلازمة تكيّس المبيضين.
كنت في السنة الثانية من الدراسات الطبية حين زرت طبيب النساء والتوليد بسبب عدم انتظام دورتي الشهرية. بعد فحصي وإجراء التحاليل اللازمة، جلس أمامي بحذر قبل أن يُنزل على كتفيّ التشخيص الثقيل بلهجة الأطباء العقلانية الرتيبة.
“مادموزيل… المرض إللي عندك اسمه: متلازمة تكيّس المبيضين”.
في تلك اللحظة، كانت معلوماتي الطبية الضئيلة تقتصر على كيفية اشتغال أعضائنا بطريقة فيزيولوجية وكنت لم أغص بعد في علم الأمراض. ربما يفسّر هذا تأخر ردّ فعلي، أو لنقُل صدمتي بهذا التشخيص، أو لعلها كانت أولى خطواتي في الحداد الذي غالبُا ما يبدأ بمرحلة الإنكار.
حدادٌ على ماذا؟ أو دعيني أقول على من؟
قال لي الشيخ جوجل يومها أن هذه المتلازمة عبارة عن مجموعة من الأعراض التي تنتج بسبب ارتفاع نسبة الأندروجين (هرمون الذكورة) في المرأة، ما تزال أسبابها في طور الدراسة ولكن نسبةً هامةً منها تعود إلى الموروث الجيني. وتشمل هذه الأعراض عدم انتظام الدورة الشهرية، وزيادةٍ في نموّ الشعر في أنحاء الجسم، وتساقط شعر الرأس، وحب الشباب، واحتمالية كلّ من العقم، وزيادة الوزن والسمنة، وأمراض القلب والشرايين، واضطرابات المزاج، وسرطان الرحم، ومرض السكري من النوع الثاني.
قال لي كل ذلك فخِلت وقتها أن وظائفي الحيوية انطفأت.
وأنا أصارع نفسي لأحفر فيها وأكتب هذه الكلمات اليوم بعد مرور أربع سنوات على التشخيص، أعتبر أنني قد اقتربت من الطرف الآخر للنفق. ومع أن قائمة الأعراض هذه ما تزال تعصر فؤادي وتدهس أنفاسي إلا أنني عثرت على نوعٍ من التصالح مع جسدي المتغيّر، فعلى الأقل أضحى الدرب صحيًا نسبيًا اليوم، خاليًا من العار والخجل والخيبة والحزن والشعور بالنقص.
على من أعلنت حدادي وقتها؟ أدركت مؤخرًا حين انقشعت كل تلك السحب، أنه في تصوري، “أنوثتي” هي من كانت الفقيدة إلى الأبد.
فرغم كلّ الأعراض العضوية الجدية التي وردت في تلك القائمة غير الشاملة (سرطان وسكري وأمراض القلب والشرايين)، لم تمكث في ذهني سوى تلك المتعلقة بمظهري من تساقط في الشعر وزيادة في الوزن وصعوبة خسارته رغم كل المحاولات.
كنت أراها في مرآة حمّامنا وفي كل مرآةٍ تعترضني. أراها – أو أبحث عنها – منعكسةً على شبابيك المترو وواجهات المحلات. أراها مرسومةً على ظلال انحناءات جسمي وأنا في طريقي إلى الكلية وأحمّلها مسؤولية جميع خيباتي. كنت كلّما دفعتني العوارض خارج المفهوم الذي نسميه “الأنوثة”، أقول لظلالي وانعكاساتي كم كانت تبدو قبيحة. كم بدوت قبيحة في عين نفسي لأني لم أكن في انسجام وتطابق كليّ مع المعايير الجاهزة التي تقضي بأن يكون جسدي (وشخصي) رمز النعومة والنقاء وأن يتخذ شكل ذلك القالب الذي خطّته وسائل الإعلام والإعلانات ووسائل التواصل الاجتماعي وأفلام البورنو. فقط لأنني أنتمي إلى “الجنس الثاني”1 يجب أن تنبطح كل أعضائي أمام ديكتاتورية القوالب الجاهزة ومعايير الجمال المتصلبة الصدئة. فإن حادت استدارة وركي عن القاعدة، وانفلتت مقاييس خصري من خانة الأنموذج الأمثل، وتمردت شعيراتٌ على وهم النعومة في رحلتها من تحت الجلد إلى الضوء، فأنا – حسب تفكيرهمن – مدعاةٌ للشفقة أو للاشمئزاز.
متى تقررت كل هذه التوقعات من جسدي ومن حددها؟ ولمَ سُمح لها بأن تُثقل كاهلي منذ الثانية الأولى من وجودي فقط لأنني أُصنّف من بين الإناث؟ وبأيّ حقٍّ اقتحمت هذا الجسد إلى أن غزت أعمق وأخطر أركانه … مخيّلته وتصوره لذاته؟
أما احتمالية العقم فلم تكن تجرّني خارج قالب الأنوثة فحسب وإنما كانت تُفكّكني إلى هباءاتٍ من اللاشيء. لأن وظيفتي الإنجابية في تصور المجتمع لطالما كانت تحمل “جوهر وجودي” كامرأة، فإن هي ذابت، ذابت ماهيتي. كيف أكون امرأةً قد لا تنجب؟
لا تقتصر الأعراض المتصلة بمتلازمة تكيّس المبيضين على الأعراض العضوية وإنما تطال الصحة النفسية وهي جانبٌ آخر – والأهم في تقديري – من المعادلة. فقد أثبتت الدراسات أن الاضطرابات الهرمونية مصحوبةٌ بحالات الاكتئاب والقلق والاضطراب في المزاج عند النساء الحاملات لهذه المتلازمة والتي تتضخم بدورها أمام أزمة الهوية الناتجة عن المواجهة بين تغيّرات الجسد وتوقعات المجتمع الضيقة منه.
استغرق الأمر مدة طويلة كي أجمع وألصق شظايا نفسي. علمتني الشظية الأولى أني كنت بصدد خوض معركةٍ ضد المتلازمة وليس ضد جسدي وأنه لا داعي إذن إلى جلده بعدد ثواني كل يومٍ من حياتي.
كانت مسيرتي إلى التقبل والمصالحة في غالب الأحيان أشبه بخيوطٍ متشابكةٍ. لكنني أمسكت طرفها ومازلت أحاول فك تشابكاتها. لكلّ منّا رحلتها إلى ذاتها، المهم هو أن نقرر على الأقل الخوض فيها. فكرت مثلًا أنّ الطبيعة قررت أن تهديني من حين إلى آخر استراحةً من أوجاع الدورة الشهرية. فكّرت أن جسدي أهداني فرصةً حتى ألتفت إليه وأغوص فيه وأحاول فهمه، أن أتوقف عن معاملته كمجرّد وعاء. أن لا أُقزّمه وأسطّحه حتى يناسب المربّع المُعد له في عزلةٍ عني بل أتقبله كقطعةٍ لا يمكن فصلها عن كينونتي وأُعدّ له، بعيدًا عن سِجنه وسِجني وباختياري، أسلوب حياةٍ يضمن ازدهاره.
قصّ عليّ شابٌ أراد مواعدتي ذات مرة، أنه ترك حبيبته الأولى لأن شعرها كان يتساقط كثيرًا وأنها لم تكن تنتف شعر جسدها بما يكفي.
“أظنها تحمل تلك المتلازمة… ما اسمها؟… على أيّة حال كان الأمر مقرفًا”.
ركضت.
عانقتُ الشظية الثانية، ذات ليلة انهزامٍ حين قررت البوح إلى صديقتي بالأمر. كان ذلك صعبًا جدًا لأنني كنت أخجل من نفسي. أخجل من زملائي في العمل إذا ما نظروا إليّ بإلحاحٍ عن غير قصد. أخاف أن تلحظ عيون زملائي وزميلاتي أخفّ الأعراض الخارجية فتستنتج بَوَاطن هذا الجسد. ولكني في تلك الليلة قررت ألا أركض. فوجدت صديقتي تقصّ عليّ قصتي ودموعي في عينيها. كشف لي هذا الموقف أنني لست وحيدة في عباب هذا البحر الصامت المجهول للعامّة. فمتلازمة تكيّس المبيضين تطال من 3 إلى 10٪ من الإناث وتتفاوت حسب توزّعهن في العالم مما يجعلها من أكثر الاضطرابات الهرمونية والباطنية انتشارّا عندهن. إلا أنها تعاني من نقص الخدمات ونُدرة التشخيص وكذلك من قلّة تمويل البحوث العلمية.
هذه المتلازمة لا تغيّر فيزيولوجيًا الأعضاء فحسب بل تزحزح الانتظارات والمسؤوليات المُسقطة عليها وتُسائلها
يبدو أننا لا نعاني كلّنا بالضرورة من كل الأعراض المذكورة في آنٍ واحدٍ. لا نحمل كلّنا نفس العلامات ولا تتجلى هذه بنفس الدرجات ويؤدي التنوع في تعبير الجسد عن المتلازمة إلى طريقٍ خاصٍ بكلّ منا للتعايش معها. هذا المسار قابلٌ للانعراج والتغير بظهور أعراضٍ جديدة أو هدوءٍ أخرى، تحت تأثير أسلوب حياة كلّ منا. أقول التعايش مع المرض وأعني احتراف طمس آثاره الظاهرة في أغلب الأحيان. قد تبدأ الرحلة اليومية بالبحث الصباحي عن تصفيفة الشعر المثلى التي من شأنها أن تُخفي البقع شبه العارية. ومن ثمّ البحث عن القصّات الواسعة داخل الخزانة أو المغازات وإقصاء البنطلونات ذات الألوان الزاهية، حتى يبتلع اللباس الكيلوغرامات الزائدة. وقد تكون بعض التدخلات الطبية كاستعمال شعاع الليزر لإزالة الشعر، الملاذ الوحيد للبعض لكي “لا تُثار الشكوك”.
توصلنا صديقتي وأنا إلى نتيجةٍ مهمة؛ إذا كنا كطبيبتين دارستين للموضوع قد وجدنا صعوبات كثيرة في التعامل مع الأمر عندما طالنا شخصيًا، فكيف بالنسبة للنساء الأخريات اللاتي ربما لا تعلمن حتى بأنهن حاملات للاضطراب؟ أردنا أن نقوم بمبادرةٍ توعويةٍ في هذا السياق إلا أن الخوف من “التعري” للعلن سرعان ما منعنا من ذلك.ِ لكن لِمَ يكون الحديث عن هذه المتلازمة بمثابة التعري؟ إن جميع أجسادنا في حالة تغير مستمر، سواء الصحيحة منها أم العليلة. لم إذًا نلصق العار ببعض التغيرات دون غيرها؟ ولم نتّهم بعض الأجساد بالفشل في أداء وظائفها فقط لأنها أجسادٌ أنثوية؟
لأن هذه المتلازمة، على عكس الربو أو قصر النظر، لا تغيّر فيزيولوجيًا الأعضاء فحسب بل تزحزح الانتظارات والمسؤوليات المُسقطة عليها وتُسائلها. فتهدّد إذن “حقائق المجتمع المطلقة” التي قد ترتقي إلى القداسة حول أجسادنا ومن نكون كنساء. خيبةُ الآخرين من عدم انصياعنا إلى القوالب مخيفةٌ، لأن الكلّ يمتلك القدرة على انتزاع صفة “الأنثى” عنا في أية لحظةٍ إذا ما وجد أن أجسادنا لم تعد “تستحقها”. وهي أجسادٌ حبيسة إملاءات هرموناتها ووظائفها الإنجابية في نظر المجتمع. رغم أنها في الحقيقة ليست سوى أسيرة تصوراتٍ ضيقةٍ لأنوثةٍ رحبة.
فكرت في الأمر مليًا ذات يوم، فوجدت أنني في الحقيقة لست مهتمةً بالانتماء إلى كيانٍ إقصائيٍ في جوهره وأنه ربما، أهدتني المتلازمة أيضًا طريقًا إلى التحرّر والثورة على معايير الجسد الأنثوي المستبدة.
نحن إذن مدعوّاتٌ للمحاربة على أكثر من جبهة ولكن السلاح واحدٌ. سلاحنا ذواتنا والأولويات التي نحددها لها. يمكننا أن نستعيد الكثير من الطاقة المهدورة في تعذيب أجسادنا وحجبها، حين نعتبر صحتنا النفسية والجسدية أولويتنا القصوى، حين نكفّ عن التسليم بأن إرضاء جميع الأعين على حساب راحتنا الذهنية وصحّتنا الجسدية هو قدرنا المحتوم.
لذا أعلن أنني أنا، كغيري من النساء، أتعايش مع مُتلازمة تكيّس المبيضين.
أجسادنا أكثر من متلازمة ونحن أكثر من أجساد.
الكاتبة : آمنة مخلوف_ موقع جيم