تطلَّب الأمر مني عدة أيام كي أكتب هذه السطور في الذكرى الحادية عشرة للثورة السورية، وأنا أحاول جاهداً البحث عن نقطة محددة مفيدة، أركز عليها، بدلاً من التورط في فخ الكتابة عن ذكرى الثورة بوصفه واجباً. وكأنه إقرار موقف أو تأكيد عليه. فقد سبقني العشرات في تقديم هذا الموقف وإقراره في الأيام القليلة الفائتة، بحيث باتت الكتابة في نفس المسار، أشبه بحالة “أدلجة” تذكرني بشعارات حزب البعث ودروس مادة القومية الاشتراكية، في ظل نظام الأسد.
كما بات النقاش المستجد، كل سنة، حول “أخطاء الثورة”، أو توصيف وضعها اليوم، هل ما تزال حيّة؟، أم باتت جثة يجب دفنها –حسب وصف أحد الكتاب- وذلك احتراماً لتضحيات من خرج مناضلاً في مراحلها الأولى بدلاً من التربح السياسي على حسابها؟ بات هذا النوع من النقاش، ممجوجاً ربما، وحان الوقت لوضع حدٍ له، فقد أُشبع جدلاً، ناهيك عن الجدل “المقيت” حول موعد انطلاق الثورة، هل هو في 15 آذار، أم في 18 آذار؟، وهو الجدل الذي يضرب مجدداً على أوتار المناطقية وعقدة “ريف – مدينة”، التي كانت أبرز أسباب ما وصلنا إليه، اليوم.
ويبقى دوماً الحديث عن المستقبل، هو المثمر.. لكن هذا الحديث يعتمد منهجين: “الأول” استشراف المستقبل، و”الثاني” البحث عن أجندة عمل يمكن البناء عليها للمستقبل. وفيما أُسيل الكثير من الحبر في الكتابة وفق المنهج الأول، انطلاقاً من زاوية عجز السوريين عن الفعل، بحيث اقتصرت معظم الكتابات على تحليل الآثار المحتملة للتطورات الإقليمية والدولية، والمحلية أيضاً، ندرت الكتابة التي ناقشت بجدية، ما الذي يمكن للسوريين فعله لتجاوز الحالة الراهنة.
وفي غمرة البحث عن نقطة مفيدة يمكن البناء عليها، جاءت التظاهرات الضخمة التي عمّت مدن الشمال السوري الخارج عن سيطرة النظام، والتي وصل بعضها إلى مدن درعا التي تكابد سيطرته. تلك التظاهرات تتطلب وقفة تأمل. ففي تلك المناطق، تعيش الحاضنة الشعبية الأكثر ولاءً للثورة، والأكثر تضرراً من استمرار النظام. وعلى تلك الحاضنة، يجب الرهان مجدداً. فإذا كان النقاش دوماً حول أسباب ما وصلنا إليه، ينحو إلى جملة نتائج أبرزها، أن “الثورة” عجزت عن خلق بديل أفضل من نظام الأسد، فإن ذلك يعني أن العمل على خلق ذلك البديل هو أفضل الأجندات التي يمكن العمل عليها. وفي الإشارة إلى البديل، لا نقصد مطلقاً، ما سبق وتحدث عنه كثيرون، وهو التكتل السياسي أو القوة السياسية القادرة على إقناع قوى خارجية أنها بديل مناسب لنظام الأسد، بحيث تحصل على الدعم المطلوب لإزاحته. وهو أمر لا يبدو أنه في سياق المُتاح وفق الآليات التقليدية. بل نقصد، خلق بديل معيشي وحياتي، في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، يحقق الحد الأدنى من الأهداف التي من أجلها اندلعت الثورة عام 2011، وهي التأسيس لنظام حكم ديمقراطي رشيد. هل نشطح في تخيل إمكانية تحقيق ذلك؟ ربما، إن كنا نراهن على خواتيم نموذجية لمقدمات متاحة بين أيدينا اليوم. في المقابل، فإن مجرد التحرك في هذا الاتجاه، سيجعل في كل الأحوال، النماذج المعيشية في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، أفضل من نظيرتها في مناطق سيطرته، من الجانب الحقوقي و”الحرياتي” إن صح التوصيف. وذاك بالتحديد، هو لبّ الغاية التي من أجلها خرج ملايين السوريين في أيام الثورة الأولى، إلى الساحات، مخاطرين بحيواتهم في مواجهة بطش النظام.
ففي أرياف حلب، وفي إدلب، أو حتى في شمال شرق سوريا، وقفت قوى الأمر الواقع على الحياد، في حالات، وانخرطت في أخرى، ضمن احتفاليات جماهيرية بذكرى الثورة، رغم أن قوى الأمر الواقع تلك، هي من أسباب الفشل في تحقيق أهداف الثورة، بعد أن أسست لنماذج حكم استبدادية لا تقل سوءاً عن نظام الأسد إلا بالدرجة. وفي تلك المناطق، حيث أثبت الجمهور حيويته، وحيث آلة البطش أقل جرأة وخبرة، يجب الرهان على حراك جماهيري لا يكون هدفه إثبات موقف، في سياق دعم الثورة، بل تحصيل مكاسب على الأرض، في سبيل تحقيق أهداف الثورة الأولى. هذه المكاسب يجب أن تكون على شكل تنازلات مطلوبة، من جانب قوى الأمر الواقع، تتيح تحسين المشهد الحقوقي و”الحرياتي”، والمطالبة بهامش أكبر من المشاركة السياسية. ونحن هنا لا ندعو للانخراط في صراع وجود مع قوى الأمر الواقع تلك، بل فقط؛ الحراك بهدف طلب التنازلات من تلك القوى، بشكل تدريجي، يوحي بحيوية الجمهور وقدرته على فرض جانب من إرادته على حاكميه.
هكذا حراك لن يبث الحياة في جمهور الثورة المحتشد شمال البلاد وغربها فقط، بل قد يبث الحياة بحراك محتمل في مناطق سيطرة النظام ذاتها، التي بات الجوع واليأس فيها، محرّكاً باعثاً على احتمالية -تزداد يوماً تلو الآخر- في تحقق انفجار جماهيري جديد.
هو رهان، يمكن لنشطاء الشمال السوري الخارج عن سيطرة النظام، العمل عليه، سواء على الأرض، أو عبر دعم نشطاء في بلاد اللجوء والاغتراب. وقد سبق أن حرّك نشطاء حراكاً جماهيرياً حاشداً ومفاجئاً للسوريين أنفسهم، وللنظام، وللعالم بأكمله، عام 2011، ليس من المستحيل تكرار المشهد، لكن ضمن أجندة واضحة الغاية والهدف، وهي إجبار قوى الأمر الواقع على تقديم تنازلات حقوقية و”حرياتية” وتنازلات على صعيد توسيع نطاق المشاركة السياسية في صنع القرار. تلك أجندة، يمكن للسوريين العمل عليها، تدريجياً، وهي أجندة إن تحققت على أرض الواقع فسوف تتيح إمكانية التفاعل مع التطورات الإقليمية والدولية وتأثيراتها على الساحة السورية، بصورة إيجابية، بدلاً من البقاء في حالة المتأثر السلبي، الذي ينتظر قرار الآخرين حيال مصيره.
إياد الجعفري _ الطريق