إذا كان السوري، قبل هذه السنوات الدامية، لا يكترث بالسياسة، لدى الغالبية من الشعب، بسبب غياب الحياة السياسية عموماً، ولا يعرف الكثير عن حقوقه في اختيار حكوماته وممثليه وصناعة سياسات بلاده، كان على الأقل يعرف أنّ هناك انتخابات، ولو مفبركة وشكلية، ولا تعدو أن تكون تمثيلاً عليه، وتطبيقاً مغشوشاً لشعارات خلّبية، تقول بالديمقراطية وسلطة الشعب. ولأنّه وصل، بسبب ذلك، إلى مرحلة عدم احتمال الكذب عليه أمام حياته التي كانت تُسرق، وتُسرق معها كرامته وأمنه وأمانه وطموحه، فقد انتفض منادياً باستعادة حقوقه كلها، وصار ما صار، كما لا فائدة بعد من تكراره، لكنّه اليوم لم يعد يكترث، لا يعنيه أي أمرٍ يتعلق بالسياسة، ولم يعد في إدراكه الزمن ما يعني الغد القريب أو البعيد، فهو مدفوعٌ بقوة لم يعد قادراً على فهمها إلى الغرق في مستنقع مشكلاته المعيشية. الشعب السوري، في غالبيته أيضاً حاليّاً، لا يلتفت إلى الفروق بين وجه جو بايدن الصقيعي، ووجه ترامب المنفلت، ولا العقوبات التي فرضها قانون قيصر، أصلاً من هو قيصر بالنسبة إليه؟ ولا يتابع أخبار مفاوضات النووي بين إيران والولايات المتحدة مع حلفائها، وهل تسير بالاتجاه المطلوب، وتنتهي إلى نتائج تُعيد إحياء اتفاق عام 2015 أم لا؟ وقد اعتاد على وجه الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، لمكوثه المديد على كرسي الرئاسة وصوره التي اكتسحت الساحات في بلاده. لا يكترث بأنّ المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، غادرت منصبها بعد 16 عاماً لاقتناعها بأنّها لم تولد مستشارة، مع أنّ ألمانيا ما زالت الحلم القابع في زوايا نفسه المحترقة.
معظم الشعب السوري يومئ بيده أمام قصف إسرائيل المتكرّر لبلاده وكأنه يهشّ الذباب عن وجهه، ولسان حاله يقول: شيلونا من هذا الخبر السخيف، ولا يعنيه أن يتابع موقف روسيا التي مكّنت قواعدها الجويّة في سورية، لماذا لا تحمي “الشعب”، أو لماذا القواعد الإيرانية فوق أرضه، ومن أرضها البعيدة تصرُخ: الموت لإسرائيل، الموت لأميركا. لا يهتم بقضية الغاز المصري الموعود به لبنان بعدما اخترق قانون قيصر، ولا لماذا التلكّؤ في تنفيذه، ولا يستطيع الشعور بمعاناة الشعب اللبناني، مع أنّ أكثر الأغاني التي ردّدها وراء نظامه في عهد الوصاية “سوا ربينا”. ليست مشكلة روسيا وحلف الناتو حول أوكرانيا من الأفلام التي تستهويه، ولا اللقاء الافتراضي بين الرئيس الروسي والآخر الأميركي الذي وقع أخيراً، كما كان قبل أسابيع بينه وبين الصيني، لا يكترث بمصير اللاجئين العالقين بين بيلاروسيا وحدود الاتحاد الأوروبي، وقد نسيهم العالم تحت وابل الثلوج اليوم، ولا مصير الذين ماتوا بطرق أخرى في التغريبة السورية الممتدة عشر سنوات وزيادة، لكنّ المؤكد أنّ اقتفاء أثر خطواتهم يبقى حلمهم الوحيد، حتى لو كانوا يسيرون في طريق الموت. ليس كوفيد 19، بكلّ نسخه المتحوّرة وابتكاراتها في حربه مع بني البشر من دواعي قلقهم، لأنّ سورية “الله حاميها”.
اعتاد السوري أزماته الحياتية، حتى لم تعد أي مشكلة ترقى إلى مستوى الأزمة
للسوري قضايا أخرى لا يرقى المستوى المعيشي لإنسانٍ يعيش في القرن الواحد والعشرين إلى مستواها، ولا يصل خياله القاصر إلى فهمها وتصديقها، وكأنّها مسائل وظواهر تأتي من الغيب أو المستقبل، أو من ذاكرة حضاراتٍ أبيدت منذ عشرات الآلاف من السنين. كيف لإنسانٍ يعيش في عصر الثورة الرقمية والتطلّع نحو الكواكب الأخرى ليبني منتجعاته عليها أن يفهم أنّ الحياة يمكن أن تسير بلا كهرباء؟ وبلا تدفئة؟ وبلا خبز سوى رغيفٍ فقيرٍ لا يشبع البطون ولا يحمي من فقر الدم؟ كيف لشعبٍ ينفق ساعاته وأيامه في الانتظار من دون أن يُنتج لأنّه فاقد الحيلة والوسيلة، يعيش خارج اللحظة، يهرع إلى مواقع التواصل ليدلق همومه ويلعن الحكومة، حتى لا يكلّف نفسه أن يعرف ماذا تعني الحكومة، وأنّها مهما تغيّرت أوعُدّلت أو أقيلت واجتُرع غيرها، تبقى حكومة “تصريف أعمال” في بلاده ليس أكثر؟ يعلون الصوت ويثرون قاموس شتائمهم لتصل إلى “الباب العالي” رئيس الحكومة، من دون أن يُدركوا أنّه مدير ليس أكثر، ينفّذ القرارات والمراسيم والقوانين والتعليمات والأوامر التي تأتي من “فوق”، هذا الفوق الذي يمتلك سطوة الغيب ورهبته.
الشعب السوري الذي صحّت فيه، في البداية، تجربة “القرود وعنقود الموز المعلّق في أعلى القفص ورشاش الماء المسلّط عليهم إذا راودت أيّ فرد نفسه في صعود السلّم للوصول إلى الموز” تصحّ فيه اليوم تجربة “الضفدع الذي وضعوه في الماء وراحوا يزيدون حرارة الماء حتى خدّره الدفء إلى أن وصل إلى درجة الغليان، ففقد قدرته على القفز والنجاة بنفسه من الموت سلقاً”، فقد اعتاد أزماته الحياتية، حتى لم تعد أي مشكلة ترقى إلى مستوى الأزمة، اعتاد القلّة في زمن التوحُّش في كلفة الحياة، اعتاد دفع الفواتير صاغراً لقاء الخدمات المفقودة التي تقدمها الدولة، كالكهرباء والماء والطرقات والخدمات العامة وغيرها، اعتاد ضمور عضلاته المطّرد مع طول انتظار رسالةٍ نصّية تخبره بدوره في تسلّم أسطوانة الغاز، اعتاد أن يمشي المسافات الطويلة إلى عمله، أو رجوعاً إلى بيته، لأنّ وسائط النقل لا تكفي، ولأنّ جيوبه خاويةٌ بعد الخبز والسكر والشاي، اعتاد ترقيع ملابس أطفاله تحت “اللباس الموحّد” مثلما لو كان التلامذة جنوداً في ثكنةٍ عسكرية.
الموت يختار بمزاجه، وليس بأمزجة الواقفين في طابوره. السوري مهمومٌ اليوم بقضية “استحمامه” كي يلاقي وجه ربّه كما يليق
السوري يمضي حياته في التمرين كلّ حين على مشكلةٍ جديدةٍ بعد أن يخرج بكفاءة من امتحان التي قبلها، وجديدها اليوم قضية “الاستحمام”. أرجو ألّا يهزأ أحد من هذا الخبر. بلى، صار الاستحمام حلماً بالنسبة إلى السوري، فالماء العادي يصل إليه بصعوبةٍ في وقت قلّة المياه، وأكثر من 90% من البيوت كانت، في زمن “الاستقرار، أو “الاستنقاع” تحتاج إلى مضخّة كهربائية تُثبّت على عدّاد المياه لديه من أجل دفع الماء للوصول إلى بيته، اليوم الكهرباء غير متوافرة، فهو مضطر إلى تقنين المياه إلى حدّ استهلاكها للطبخ بأقل مستوى أمام الغلاء وشحّ غاز الطبخ، والشرب، وللخدمات البديهية الأخرى، كأن تتوافر في دورات المياه مثلاً، فكيف يستطيع توزيع هذه الحصّة الشحيحة من المياه على حاجيات يومه؟ وإن استطاع، فكيف يسخّن المياه من أجل الاستحمام له ولأطفاله ولا كهرباء ولا مازوت ولا حطب في متناول اليد؟ هذه قضية إشكالية فائقة تتحدّى السوري اليوم، فهل من المعقول أن يُنتظر منه متابعة ما يجري في العالم من “مؤامرات” عليه؟
أنجزت، أخيراً، شركة “إيبسوس موري” للاستطلاعات Ipsos MORI، مسحاً بشأن نظرية المؤامرة في 11 موضوعاً مطروحاً للدراسة، كالاحتباس الحراري، وهجمات 11 سبتمبر، ونتائج الانتخابات الأميركية وتزويرها، وهل أبراج شبكة الهاتف الخلوي من “الجيل الخامس للخلوي” مسؤولة عن انتشار فيروس كورونا، وقضايا أخرى من طبيعةٍ يهتم العالم بها من غير السوريين. فاتها أن تستطلع الشارع السوري، في الداخل والخارج، عن دور المؤامرة في ما وصلت إليه البلاد، إلى أن صارت مضرب مثل، حتى في الصين اليوم، بحسب أحد المواقع، درجت مقولة حتى صارت كالمثل “الستايل السوري”، تعفي الفرد من أي شرحٍ عمّا أصاب الشيء الذي يتكلم عنه، كأن يتحطّم هاتفه الخلوي مثلاً ويصير خارج الخدمة، فيقول لأصدقائه صار على “الستايل السوري”. هذا هو “النموذج السوري” العلامة “السينييه” التي تضاهي في فرادتها وتعقيدها وإخراجها أكبر منجزات البشرية، لكن فات الشعوب التي تخترع الأحكام والمعايير والحكم من التجربة السورية، أنّه ما زال هناك أمل بالنسبة إلى هذا الشعب، الذي يقول أمام كلّ مصيبة جديدة: “الحمد لله على كل شي”. ما زال لديه هواجس، ما يعني أنه لم يمُت بعد، بل هو منتظرٌ في طابور الموت الذي يعرف أن الدور لن يكون حسب الأسبقية، فالموت يختار بمزاجه، وليس بأمزجة الواقفين في طابوره. السوري مهمومٌ اليوم بقضية “استحمامه” كي يلاقي وجه ربّه كما يليق.
سوسن جميل حسن _ العربي الجديد