فلسفة عصر النهضة والمرأة

كان لفلاسفة ومفكري عصر النهضة الأوروبية دوراً كبيراً وهاماً ومؤثر في تغيير مستوى وطبيعة الوعي المجتمعي المتعلق باحترام المرأة، ودورها في المجتمع بكل أركانه، ودورها في التنمية، والعمل، والتربية، والعلم، والسياسة، وغير ذلك. فقد ساهم وعيهم وفكرهم في تطور الأخلاق، أي الأعراف والتقاليد التي ترفع من شأن المرأة. وعندما صدر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان نشرت أوليمب دي غوج في إعلان حقوق المرأة: “إن المرأة تولد حرة وتظل مساوية للرجل في الحقوق. والمواطنات جميعاً والمواطنون جميعاً متساوون أمام القانون، ينبغي أيضاً أن تُفتح أمامهم أبواب الوظائف والمناصب العامة حسب كفاءاتهم ودونما تمييز”.

وفي المقابل هذا فورييه يقول في كتابه نظرية الحركات الأربع: “إن التقدم الاجتماعي والتغيرات المرحلية تتم حسب تقدم النساء نحو الحرية وانحطاط النظام الاجتماعي تابع لنقصان حرية النساء.. إن توسيع امتيازات النساء هو المبدأ العام لكل تقدم اجتماعي”. إذاً لا تقدم بدون أن يكون للمرأة دور فاعل فيه.

أما كارل ماركس الذي وصل إلى فلسفته عن طريق ما هو إنساني، وهاجسه الأساسي الإنسان وكرامته وحريته في إطار اجتماعي تسوده المساواة والعدالة، أي تحرير الإنسان من كل أنواع الاضطهاد والاغتراب، ولا أبالغ إذا قلت إن الماركسية خلاصة مستوى معرفي واجتماعي واقتصادي وسياسي معين، وليس غريباً أن تأتي آراء ماركس في المرأة منسجمة مع مذهبه الفلسفي العام، فقد رأى في علاقة الرجل بالمرأة الخلاصة المكثفة لاضطهاد الإنسان لأخيه الإنسان، وأشار إلى أن الجذور الأولى لهذا الاضطهاد هو تطور الملكية الخاصة؛ لكن ليس بالضرورة، أن يؤدي إلغاء الملكية الخاصة إلى تحرير المرأة من الاضطهاد تماماً، فما هو إنساني لا يمكن إرجاعه بصورة آلية وبخط مستقيم إلى ما هو اقتصادي، مع أهمية العامل الاقتصادي كشرط ضروري لتحرير الإنسان، ولكن مشكلة العلاقة بين الرجل والمرأة هي مشكلة نوعية، لا يمكن الاستهانة بها، فإذا كانت جذور اضطهاد المرأة اقتصادية، فهو اليوم ليس مجرد اضطهاد اقتصادي، إنه تلخيص وتكثيف وتركيب لكافة أشكال الاضطهاد التي عانى منها الكائن البشري على مر العصور، ولا أبالغ إذا قلت إن الموقف من المرأة مقياسٌ للأصالة الثورية والصدق الثوري، فالنضال لإلغاء الاضطهاد الإنساني مثلما هو مرتبط بالنضال لإلغاء الاضطهاد السياسي والاقتصادي، فهو يرتبط بالنضال لاستئصال كافة جذوره بما فيها العادات والتقاليد الرجعية المتوارثة. وقد أكد لينين قوة العادة وتأثيرها في الإنسان؛ لذلك إن إصدار القوانين والتشريعات وإن كانت ضرورية، بل ضرورية جداً، لكنها غير كافية فلابد من النضال لتطبيقها، فالعادة والتقاليد والموروث الثقافي بشكل عام حال دون إصدار قوانين جديدة للأحوال الشخصية في معظم بلدان العالم الثالث، ومنها البلدان العربية، فقد يعود ذلك لضعف الجرأة الثورية، وفي بعض الحالات الأخرى بسبب ضغط الرأي العام المحكوم بخضوعه للعادات والتقاليد، فإصدار قانون جديد تقدمي للأحوال الشخصية أكثر أهمية وأكثر خطورة وأكثر ثوريه من إصدار قانون تأميم منشأة أو مصنع. قضية تحرر المرأة مشروطة بتحرر المجتمع، وتحررها شرط لتحرر المجتمع في الوقت نفسه، وهذه ميزة الصيرورة الاجتماعية الثورية.

مفكرو عصر النهضة العربية كان لهم آراؤهم المتطلعة إلى حياة أفضل للمرأة متناسبة مع رؤيتهم للمستقبل ممزوجة بتجربتهم الأوروبية وموروثهم الديني. فالعلامة رفاعة الطهطاوي وهو أول داعية لتحرير وتعليم المرأة في مصر بل في الشرق كافة يقول في كتابه (المرشد الأمين للبنات والبنين): “العمل يصون المرأة عما لا يليق، ويقرّبها من الفضيلة، تعليم البنات القراءة والكتابة والحساب يزيدهن أدباً وعقلاً، ويجعلهن بالمعارف أهلاً ويصلحهن لمشاركة الرجال في الكلام والرأي فيعظمن في قلوبهم ويعظم مقامهن.”.

وتحدث قاسم أمين عن المرأة بحب كبير وبمسؤولية عالية وربط تحرر الأمة بتحرر المرأة، فنجد آراءه ثابتة في كتابيه تحرير المرأة والمرأة الجديدة. يقول في كتاب تحرير المرأة: “المرأة وما أدراك ما المرأة؟ إنسان مثل الرجل لا تختلف عنه في الأعضاء ووظائفها ولا في الإحساس ولا في الفكر ولا في كل ما تقتضيه حقيقة الإنسان من حيث هو إنسان، ويقول أيضاً: “الحب مصدر الفضائل”. ولا يخفى على القارئ أن أفكار قاسم أمين تستند إلى حبه المرأة في ذات أمه وزوجته وبنته، وهو بعد ذلك يرى في الحب الشعاع الأول للحياة، ورأيه انعكاسُ لرؤية ثاقبة كيف يجب أن يتطور المجتمع المصري، وكيف يتخلص من جاهليته، إذ لا سبيل لذلك إلا بتحرر المرأة من جهلها؛ لذلك دعا إلى تحرير المرأة المصرية، وخاض معركة حامية ضد التخلف والرجعية والجمود، ولم يثنه شيء عن ذلك، فنشر مقالات عديدة عن تحرر المرأة في جريدة المؤيد عام 1898م غايتها تحرير المرأة وتحرير المجتمع يؤديان إلى تحرير الأمة وإصلاحها، وفي رأيه لا يوجد شيء يمنع المرأة المصرية من أن تمارس كلّ المهن التي تمارسها المرأة الغربية كالفنون والعلوم والأدب والفلسفة والسياسة والتجارة والصناعة وغيرها وغيرها إلا الجهل وإهمال تربيتها. لذلك لابدّ من إعدادها إعداداً يتلاءم مع إنسانيتها، وعدم التفريق بينها وبين الرجل. أليس الرجال من النساء والنساء من الرجال، وهنّ نحن ونحن هنّ؟ أيتم كمال الرجل إذا كانت المرأة غير كاملة؟، بينما نجد آراءه في كتاب المرأة الجديدة أكثر ارتباطاً بحياة المجتمع والأمة وتطورهما: “دلت التجربة على أن الحرية هي منبع الخير للإنسان وأصل ترقيته وأساس كماله الأدبي، وأن استقلال إرادة الإنسان أهم عامل في نهوض الرجال فلا يمكن إلا أن يكون للنساء مثل ذلك الأثر في نفوسهن، فالحرية أساس كل عمران ومفهوم الحرية هنا للإنسان رجلاً كان أو امرأة”.

فإذا كانت هذه آراء مفكري عصر النهضة العربية أي منذ أكثر من مئة عام فأين نحن الآن من هذه الآراء ونحن في عصر العولمة والاتصالات والفضائيات؟

لابدّ من العمل على توفير شرطين أساسيين لتحرر المرأة: الإرادة الذاتية، والشروط الموضوعية على حد سواء.

على صعيد الإرادة الذاتية: الإرادة الطيبة وحدها لا تكفي بل لا بد من التحلي بإرادة ثورية واعية، وتتجلى في العمل الدؤوب من أجل خوض معركة تحرر المرأة بثقة والتفاني من أجل الانتصار، وهذا يقتضي مراجعة الذات بعقلية ناقدة منفتحة بعيدة عن التعصب والتمييز ومحاسبة دقيقة للذات، وكم هي الشوائب العالقة بوعينا من الموروث الثقافي المتناقض مع المساواة والعدالة الاجتماعية، فنخلق له مبررات واهية ليست علمية بل مخزونة في عقلنا الباطني، ويساعد على إبرازها الواقع بكل تجلياته، ولا يمكن لي إلا أن أكون واقعياً، فمن غير المنطقي في هذه الحال أن نتصور أننا نستطيع أن نتحررها دفعة واحدة ونهائية من كل هذا الموروث، فاسأل نفسك أيها الرجل وفي كل المواقع هل تسمح وتبيح للمرأة (زوجتك وابنتك وأختك) بكل ما تسمح به وتبيحه لنفسك؟ لا يكفي أن نعلن حق المرأة في المساواة، بل ينبغي أن نؤمن ونقتنع ونريد هذه المساواة من أعماقنا وبوعي وحب، ونريدها نحن وتريدها المرأة، وهذا يتطلب جرأة ورغبة حقيقية في الإقدام والتصدي لهذه المهمة.

أما على صعيد الشروط الموضوعية: لا شك أن الوضع الاقتصادي والقاعدة المادية لبناء مجتمع الاشتراكية والعدالة والمساواة له الأثر الحاسم في العملية الثورية لتحرر المرأة، وهذا بالتحديد يتطلب مساهمة المرأة ومشاركتها في عملية البناء والتنمية، وأن يترافق ذلك بإصدار التشريعات المناسبة، وخصوصا ما يتعلق بالحريات الشخصية والديمقراطية والأحوال الشخصية، وما يتعلق منها بحقوق الزواج والطلاق والميراث والملكية والسفر والتعليم وحضانة الأطفال والمواطنة بشكل عام، وغيرها وغيرها الكثير. ما من شك في أن مشكلة اضطهاد المرأة مشكلة نوعية، وحلها لا يكون بشكل ميكانيكي بالتحرر المادي فحسب؛ لأن المرأة ليست عبده فقط في المجتمع الطبقي بل عبدة العبد، مُستعبدة من الرجل المستعبد في مجتمع الاستبداد وسيطرة المستبد وعاداته وقوانينه المتخلفة. أخي الرجل أعتقد أن موقف الرجل من المرأة يبين إلى أي حد أصبح الإنسان إنساناً بالنسبة إلى نفسه أولاً.

سليمان الكفيري _ نينار برس

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

آخر الأخبار

سوريّات في فخ “تطبيقات البث المباشر”..بين دعارة إلكترونية واتجار بالبشر

يستقصي هذا التحقيق تفشي “تطبيقات البث المباشر” داخل سوريا، ووقوع العديد من الفتيات في فخ تلك التطبيقات، ليجدن أنفسهن يمارسن شكلاً من أشكال “الدعارة...

ابتزاز واغتصابٌ وتعذيب.. سوريون محاصرون في مراكز الاحتجاز اللّيبية

يستقصي هذا التحقيق أحوال المحتجزين السوريين في ليبيا خلافاً للقانون الدولي، وانتهاكات حقوق الإنسان داخل مراكز احتجاز المهاجرين، وخاصة تلك التي تتبع “جهاز دعم...

كعكةُ “ماروتا سيتي” بمليارات الدولارات

آلاف الأسر تتسوّل حقّها بـ"السكن البديل" على أبواب "محافظة دمشق" يستقصي التحقيق أحوال سكان منطقة المزة – بساتين الرازي في دمشق، بعد تهجيرهم من بيوتهم...

معاناة اللاجئات السوريات المصابات بمرض السرطان في تركيا

تصطدم مريضات السرطان من اللاجئات السوريات في تركيا بحواجز تمنعهن من تلقي العلاج على الوجه الأمثل، بداية من أوضاعهن الاقتصادية الصعبة والاختلاف في أحقية...

خدمات المساعدة القانونية المجانية للاجئين السوريين في تركيا

غصون أبوالذهب _ syria press_ أنباء سوريا الجهل بالحقوق القانونية للاجئين السوريين في تركيا يقف حجر عثرة أمام ممارسة حقهم بالوصول إلى العدالة، ويمنعهم...
Exit mobile version