“نعم… لدي اسم، ولدي جسد، لكن هذا الجسد لم يعد لي بعد تعرضي للاغتصاب وأنا طفلة”، تقول إحدى ضحايا التحرش الجنسي.
تعود بذاكرتها لأول محاولة اقتراب من جسدها من شخص لا يقربها، ليس من عائلتها، كان غريباً برائحة الخوف، وكانت صغيرة لا تفقه لغة الجسد وكيفية حماية نفسها وذاكرتها. تلك المشاهد القاسية التي أجبرها القدر أن تبقى على تواصل معها قد أرهقتها فقررت البوح بها.
كانت في السادسة من عمرها حين كانت تلعب مع صبية وفتيات حارتها حيث كعادتها تتنقل بحرية تلعب الغميضة تتسابق مع المارين على دراجهتم الهوائية كمحاولة لتهزم نسبية السرعة، هنا بالضبط وقعت الحادثة حيث تعبت واستندت لجدار إحدى أزقة الأبنية تلهث تعباً من الركض وإذ بيدٍ خشنة الملمس، حسب ما وصفت، قاسية التعامل كريهة الرائحة محشوة بعدد السجائر التي ابتلعها المغتصب وهو يراقب فريسته لينقض عليها في قبو البناء واضعاً أصابعه على فمها ليخنق صوتها، اغتصبها دون أن يلملم نفسه من فوق جسدها، ترك أثار وحشيته ندوباً في كل أرجاء جسدها النحيل.
لقد نزلت من غرفتها للحارة طفلة صغيرة وعادت محمولة على كتف الجيران إلى المستشفى امرأة صغيرة.
دخلت عامها الدراسي الثاني في مدرستها لتبدأ رحلة تعلمها بشكل طبيعي كفتيات جيلها مع حرص شديد من والدها الذي يوصلها ويأخذها من وإلى المدرسة خوفاً من تكرار المأساة على صغيرته مما جعلها تشعر بالخوف والنقص دائماً. كما أن الأمر مماثل مع والدتها التي لم تتركها وحيدة في المنزل مع أخواتها ولم تعد تأمن أن تجعلها تمارس طفولتها باللعب مع أصدقائها في الحارة.
لقد قيد الخوف والقلق كل أفراد أسرتها مما زاد الضيق فوق قلبها وازدياد شعورها بالحزن حول إن كانت مذنبة في ما حصل لها أم لا؟
مرت السنين لتدخل في عمر المراهقة، ورافقت فتيات منفتحات يتحدثن من باب الإطلاع وشهوة الحصول على تلك اللحظات الحميمة حين يحين موعد إقبالهن على الزواج، وسوف ينسين تلك المحادثات في اليوم التالي، لكنها تبقى مرسومة في خيال الفتاة متأثرة بجرحها القديم. إلى أن وقعت الكارثة في حياة الصغيرة، حيث أقدمت على البوح لإحدى الفتيات، اللواتي تحدثن أمامها بتلك المواضيع الحساسة، بما حصل معها من باب الثقة كونها شريكة مقعد الدراسة، شريكة ساعات الفرصة المدرسية، شريكة الحصص الخصوصية بعد الدوام.
في اليوم التالي من إخبارها سرها أصبحت كل المدرسة على علم بقصتها، دخلت باب صفها لتجد كل العيون شاخصة إليها، البعض يضحك، البعض صامت بحزن، البعض يتشاور بالهمس مع جاره بالمقعد، بينما أستاذة الحصة غاضبة وتطلب الاعتدال بالجلوس مع الصمت وتطلب من الصغيرة الدخول للصف لتبدأ الحصة.
لكن الجو العام كان مخيفاً بالنسبة لها، على حد وصفها، شعرت بالغثيان من شدة توترها فطلبت على الفور من معلمتها الخروج لتسمع أقسى تعليق من إحدى زميلاتها الحاقدات: “يبدو أنها حاملٌ يا أنستي”.
ضحك الجميع، عدا التي تسمى صديقتها التي أفشت سرها، أما معلمتها فقد سارعت إلى طرد من تفَوهت بتلك العبارة خارج الصف، و رافقت الصغيرة إلى الحمام بعد أن انهارت بسبب إدراكها بأن قصتها قد كشِفت.
عادت لمنزلها وطلبت الانتقال إلى مدرسة أخرى بعد أن أخبرت عائلتها بما حصل، فألقوا باللوم عليها لإفشائها ما حاولوا جاهدين إخفائه. فسألت الصغيرة السؤال الأكثر وجعاً: “هل تخجلان مني؟”، موجهة إياه إلى والدها والدتها.
كبرت الفتاة وأصبحت في العشرينيات وما تزال تحمل عقدة ذنب طفولتها، في الوقت الذي يسرح غاصبها في الشوارع دون عقاب أو خوف أو خجل. دون تهديد بمستقبله، أو توجيه أصابع اللوم إليه، يمشي مختالاً بفعلته التي تكررت مع فتيات كثر بعدها دون أن ينال ولو جزءاً صغيراً من العقاب، الذي يمكن أن يخفف من التعب النفسي الذي يثقل قلب وعقل وروح تلك الصغيرة التي التقيتها أول مرة في عيادة الطبيب النفسي الذي أعمل معه كمتابعة لقضايا نساء صغيرات رغبن بكشف ماضيهن لتتعلم من بعدهن أن لا تخاف، لا تخجل، لا تتوقف عن ممارسة طفولتها.
فتاة اهتمت ولاحقت عقلها لتداويه بالنسيان وتنجب فتاة أخرى من ذات الجسد، فتاة قوية لا تخاف من أشباه الرجال المحاطين بها هي والكثيرات ممن تشابهت قصصهن مع قصتها. هي الآن مشروع ناشطة في حقوق المرأة من طفولتها حتى شيخوختها، تقف أمام المنبر، و تحاور الرجال قبل النساء، حيث تناقش أهم الأسباب وراء نهضة المرأة ضمن المجتمع العربي في محاولة صادقة منها بأن تحيا النساء دائماً وأبداً مثلما أردن أن يكن.
المصدر: ”شبكة المرأة السورية”