syria press_ أنباء سوريا
لا أستطيع التوقف عن التفكير في مدام ديفارج. زعيمة نساء الحياكة في رواية «حكاية مدينتين» لتشارلز ديكنز، المنشورة سنة 1859. لا أتذكر أي شيء عنها -عن دوافعها، أو عما فقدته، أو لماذا كانتَ جزءًا من الثورة الفرنسية. كل ما أتذكره هو مثابرتها: حياكتها المتواصلة بجهدِ دؤوب، لتشفير أسماء كل أولئك الذين يجب قتلهم لأنهم أعداء للثورة الوليدة.
في النقد الأدبي، نُظِر إلى شخصية مدام ديفارج كتجسيد لـ «سيادة الإرهاب» أثناء الثورة الفرنسية، ولكن طالما رأى الباحثون أن قراءة مدام ديفارج باعتبارها أحادية الأبعاد لا تأخذ بعين الاعتبار تعقيدات موقعها.
تشير باحثة الأدب تيريزا مانجوم، في انعكاساتها عن شخصية مدام ديفارج، إلى أن «المنطق الذي يحرك قصتها هو أن جريمة العنف الجنسي السرية، التي تُرتكب بحق النساء، هي إحدى محركات الثورة الفرنسية».
أرى هذه المقولة شديدة الصلة بواقعنا.
داخل هذه المرأة -التي تصبح تابعة مُخلصة، ثم قائدة في الانتفاضة ضد قهر الأرستقراطيين، وفي قلب غضبها وانتقامها وألمها وسعيها للعدالة- تكمن التروما الجنسية. تروما يمكن للكثيرات من النساء الشعور بصِلَتهن بها بسهولة. كانت أجساد النساء ورقة مساومة في أي حدث سياسي يغيّر مجرى التاريخ. فلأنه جسد أنثوي، لم يكن التعذيب أو التشويه أو القتل كافيين. الاغتصاب والعنف الجنسي كانا نهجًا دائمًا، لأنهما يغذيان توق المُعتدي للسلطة، كما أنهما يجرحان الذات الذكورية لمالك هذا الجسد الأنثوي، سواء كان والدًا أو ابنًا أو أبًا أو أخًا.
لم أستطع التوقف عن التفكير في مدام ديفارج عند حضور العرض الأول لفيلم «عنها»، الفيلم الأول لـ«الأب الروحي للسينما المستقلة في مصر»، إسلام العزازي، المُخرج البالغ من العمر 49 عامًا. مؤسس مدرسة الجيزويت للسينما بالإسكندرية، والمؤسس المُشارك في أول شركة إنتاج أفلام مستقلة (SEMAT).
قبل أقل من 48 ساعة من العرض الأول، نشرت مدونة «دفتر حكايات»، المعنية بجمع ونشر شهادات عن العنف الجنسي، شهادتين مجهلتين اتهمتا المخرج، «إ. ع»، بالاعتداء الجنسي والتحرش. في الأيام التالية نُشرت أربع شهادات أخرى تتهم نفس المخرج باتهامات تتضمن الاغتصاب، كما شاركت المخرجة النسوية سلمى الطرزي في الشهادات ضد إسلام العزازي، نظرًا لمعرفتها بحوادث مشابهة تورط فيها.
عند نقطة محددة، كنتُ جالسة في القاعة الرئيسية بدار الأوبرا المصرية. أنا امرأة صانعة أفلام، وأعرف ثلاث من الضحايا اللاتي شاركن قصصهن ضد المخرج. كنتُ أجزّ على أسناني، أفقد أعصابي، أفكر جديًا بالانفجار غضبًا وأن أُبرحه ضربًا، ذلك المخرج الذي تجرأ على الحضور مع شريكته ليجري مقابلات صحفية، كان قد نظمها موزع فيلمه، بعدما طُرد ممثلو وسائل الإعلام الذين قد يطرحوا أسئلة غير مريحة.
مُستدعيةً مدام ديفارج، وجدتُ فعلًا واحدًا مُهدئًا؛ أخرجتُ هاتفي، وفتحتُ ملفًا جديدًا، وبدأت في كتابة اسم كل شخص مشهور قد شارك العرض ليُظهر دعمه لذلك الرجل. لا أعلم ما الذي يمكنني فعله بهذه القائمة، أو ما إذا كان بإمكاني فعل أي شيء على الإطلاق. أنا لستُ جزءًا من مجموعة تمتلك أي قدر من السلطة، أو بإمكانها نصب المحاكم وقطع الرؤوس باستخدام مقصلة. ولا أعتقد أنني أرغب في ذلك.
ولكن في الأيام اللاحقة، وجدتُ نفسي أضيف لهذه القائمة أسماء أشخاص قد هنأوه على انستجرام ونشروا مقاطع للفيلم من السجادة الحمراء، وأشخاص كتبوا له رسائل دعم على فيسبوك، وذمّوا النساء اللاتي تحدثن، متسائلين عن اختيارهن لهذا التوقيت. إنهم، نساء ورجال، ينتمون لنفس الصناعة، أشخاص أحب أفلامهم. إنهم أشخاص يستمرون في الإنحدار حين يدافعون عن معتدي جنسي متسلسل، كان يستغل النساء الشابات بشكل ممنهج.
في نفس هذه الأيام، وفي عالم مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، عُرِض لأول مرة في الشرق الأوسط فيلم الصديقة العزيزة مي زايد. الوثائقي الطويل الحائز على جوائز، بعدما عُرض في مهرجان تورنتو السينمائي (TIFF). يحكي فيلم «عاش يا كابتن» قصة زبيبة، فتاة دُرِبَت على يد المدرب رمضان، والد بطلة العالم في رفع الأثقال، نهلة رمضان. الفيلم هو عمل مؤثر عن امرأة تلعب رياضة في منطقة حضرية مهمشة خارج القاهرة.
بعد عرض الفيلم، كتب عمروش بدر، مخرج الوحدة الثانية (كما حُدد وصفه في الفيلم)، منشورًا عبر فيسبوك يتهم فيه زايد بسرقة الفيلم منه، قائلًا إنه لن يتنازل عن حقوقه المشروعة. وفقًا لبدر، لقد أُجبِر على ترك مشروع الفيلم في 2016، لأن الممولين قالوا لفريق العمل إن عليهم صناعة فيلم عن النساء، وليس عن المدرب رمضان، لأن ذلك من شأنه جعل الفيلم «عصريًا» مما سيؤمن مردوده المادي. رفض بدر التنازل عن رؤيته وشعر بالنبذ وعدم الاحترام من قِبَل مصور الفيلم، محمد الحديدي، ومن قِبَل زايد نفسها.
أقدم نفس مجتمع صُنّاع الأفلام والمنتجين المبدعين، الذين من المفترض أن يكونوا على علم بكيفية صناعة الأفلام الوثائقية، على مشاركة منشور بدر لدعمه. أتى ذلك عقب نشر بيان على صفحة الفيلم الرسمية على فيسبوك، أدلى بالحقائق في ما يتعلق ببدر، حيثُ أنه قد وقّع على عقود، واختار ذلك التوصيف المقدم به تحديدًا، كما نُسِبت إليه مساهمات أخرى في الفيلم. وأضاف البيان أنه قد تلقى أجره كاملًا، وأن هناك سنتين من التصوير وسنتين أخريين من المونتاج لم يساهم فيهم بدر بشيء. وكتب كلًا من مصور الفيلم محمد الحديدي، ومونتيرة الفيلم سارة عبد الله، منشورات مُطوّلة عما شاهده كل منهما، دعمت تلك المنشورات زايد كمخرجة للفيلم.
أنا شخصيًا مُقتنعة أن الفيلم من إخراج زايد، وفوجئتُ بالخطاب الذي أتى به إدعاء بدر. نحن في موقف تحتاج فيه زايد لإثبات أنها مخرجة الفيلم. كما تحتاج ضحايا العزازي أيضًا لإثبات أنهن قد تعرّضن للتحرش والاعتداء والاغتصاب. ما أتساءل عنه ببساطة: بما أن زايد والعزازي يتشاركان نفس الموقع الدفاعي، لماذا إذًا ردود الأفعال مختلفة؟
العزازي هو ذكر مغاير جنسيًا، يأتي من طبقة اجتماعية عالية ومن فئة عمرية محددة ومن موقع (ذي امتياز) في عالم صناعة السينما المستقلة في مصر. يُشَكَك في الادعاءات الصادرة بحقه، بالرغم من جديتها، ويُطلب من الضحايا إثبات ما يدعونه. يحدث هذا في سياق تسهل فيه إساءة استخدام علاقة القوة بين المخرج والممثلة، وفي غياب تام لأي نقاش بخصوص امتيازه الطبقي. كل ذلك أُسكت، وسُئلت الضحايا حول نواياهن، وتوقيتهن، وعن الأدلة التي يمتلكونها.
وفي المقابل، زايد هي امرأة من خلفية ذات امتياز، والادعاء بحقها كان بخصوص سرقتها لعمل وأفكار صانع أفلام أقل امتيازًا. هنا، وبشكل مفاجئ ظهرت الحساسية الطبقية كجزء من النقاش، بينما لم يتساءل أحد حول نوايا وتوقيت وأدلة عمروش بخصوص ادعائه. كان هناك فقط صُنّاع أفلام ذكور يظهرون تفهمًا عظيمًا لاستيائه وغيرته من نجاح ما كان من الممكن أن يصبح فيلمه. في الوقت ذاته، احتاجت زايد لإثبات أنها لم تستغل قوتها الطبقية من أجل صناعة الفيلم.
هذه الازدواجية في المعايير مُجَندَرة: الانحياز للدفاع عن العزازي وللهجوم على زايد مرتبط بواقع كونه رجل وكونها امرأة. لا يسعني إلا أن أتساءل عما إذا عكسنا عاملًا واحدًا بسيطًا -إذا كانت ادعاءات العنف الجنسي موجهة ضد امرأة، واتهام سرقة الرؤية الفنية وُجِه ضد رجل، كيف كانت ستختلف ردود الأفعال والنقاش بأكمله بخصوص هاتين الواقعتين؟
عُدتُ لمدام ديفارج وتساءلتُ: لو كانت صانعة أفلام في 2020 وشاهدت انتهاك أجساد النساء، ووصمهن لأنهن تكلمن، كيف سيكون شعورها؟ هل ستصبح جزءًا من حركة «me too»؟ هل ستكون أكثر جذرية؟
أتساءل ماذا لو رأتَ قائمة الأسماء على هاتفي: ما الذي ستوصيني بفعله؟
فكرتُ كثيرًا وجديًا في هذه القائمة. لن أفعل بها شيئًا، سأحتفظ بها فقط على هاتفي لتذكرني بأن كوني صانعة أفلام ليس خيارًا سهلًا، وأن المعركة طويلة وشاقة، والعدالة بعيدة، وأنني لستُ جزءًا من مجتمع تقدمي كما يدعي، كما لا أستطيع أن أكون انتقامية، وأنني بحاجة لإحياء إيماني بالإنسانية، ولإفساح مجال من أجل الشفاء، وأنني أحلم بطريقِ أمومي حيثُ الشفاء والحياة يأتيا أولًا.
منة إكرام _ مدى