في مقال غير مكرس لهذا الغرض، ينقل محمد أبي سمرا عن سلام الكواكبي إشارة إلى ظاهرة الضباط الذين راحوا يقودون سيارات “مسروقة” بلوحاتها اللبنانية في شوارع حلب في عام 1977. المقال بعنوان “حلب وسيارات ضباط الأسد المسروقة من لبنان”، نُشر في “المدن” بتاريخ 15/12/2021، والواقعة المُشار إليها تسبق بأكثر من عقد حادثة السرقة الأشهر التي شاع خبرها في أوائل التسعينات، وهي سرقة سيارة بشار الأسد في حلب.
الحادثة ذاتها تقادمت، بفعل الزمن، وبفعل الأحداث الجسيمة خاصة منذ عام2011. ما لم يتقادم هي الآليات التي تعمل بموجبها الماكينة الأسدية، الآليات التي لا تتناسب إطلاقاً مع الصورة السائدة عن “نظام” حاذق، بدلالة احتفاظ الأب والابن بالسلطة. وهي لا تتناسب مع الخطاب المتخيَّل للأب المؤسِّس، الخطاب المترفّع عن الإسفاف، ولا مع الخطاب المتخيل لطبيب العيون الدارس في لندن والمتشرّب بالإتكيت الغربي! تلك الآليات، بالمفردات المستخدمة فيها، هي أفضل دليل ما يزال صالحاً حتى الآن للعلاقات ضمن عصبة الأسد.
نُقل مصطفى التاجر من منصبه كرئيس فرع المخابرات العسكرية في حلب إلى رئاسة فرع فلسطين بالوكالة، وهو خبر لم يكن بالعادي، فالتاجر عُرف طوال عقد الثمانينات كيدٍ ضاربة لحافظ الأسد، وكان لبطشه الأعمى أهمية في مواجهة الإخوان، وفي اعتقال أعضاء “المكتب السياسي” و”رابطة العمل” الشيوعيين. وهو، رغم بعض المنافسة من رئيس فرع أمن الدولة عمر حميدة، بقي يُنظر إليه كرقم واحد من حيث السطوة في المدينة الأكبر حلب.
حسبما أشيع آنذاك، رأى واحد من أسرة التاجر سيارة فارهة مركونة في أحد شوارع حلب، فأمر مرافقيه باصطحاب السيارة لتكون له، ومن سوء حظه أنها كانت لبشار الأسد الذي ربما كان في زيارة عادية، أو كان في المدينة من أجل “دورة أركان” في “مدرسة المشاة” هناك. في تفسير وجود السيارة بلا حرس، يُروى عن بشار في تلك الفترة، أيام تأهيل باسل كوريث، هروبه من المرافقين، وكان يُفهم من قبل البعض زهداً في السلطة، بينما يفهمه البعض الآخر تملصاً من سلطة وعيون باسل الذي راح يعيّن هؤلاء الحراس.
استقبل حافظ الأسد مصطفى التاجر بحضور رئيس المخابرات العسكرية في البلاد علي دوبا، ومما قال للتاجر: إضبارتك صارت أطول منك. وهذه عبارة عن لسانه اشتُهرت بين السوريين، ومؤداها أنه يعلم بكل أفعاله “المشينة” بفضل تقارير المخابرات، حتى إذا كان المعني رئيساً لفرع مخابرات. ثم سيوبّخه بالإشارة إلى معرفته بسرقاته وسرقات أفراد عائلته على نطاق يشمل حلب كلها، وسكوته عن ذلك كله، لكن أن يصل الأمر إلى سرقة سيارة ابنه! بعد إبداء غضبه، يلتفت حافظ الأسد إلى علي دوبا قائلاً: ما رأيك يا علي؟ يجيب علي، ربما بعد تمهل محسوب: سيدي، نحن لا ننسى الذين خدمونا.
وخدمة مصطفى التاجر بدأت منذ كان ضابطاً صغيراً في الجيش، ووشى بزملاء له دعوه للمشاركة في التخطيط لانقلاب. وهو حينها طلب مقابلة حافظ الأسد لأمر خطير، ولم يقبل بإخبار من هم دونه، مصراً على قول ما في جعبته له شخصياً، كي يتكسب من وشايته أكثر ما يمكن. ولقد التقط حافظ الأسد موهبته في الوشاية التي تؤهّله ليكون في المخابرات، محققاً له بذلك حلم السطوة المتبوعة بالثراء الفاحش.
سيستقر الأمر على تعيين التاجر رئيساً لفرع فلسطين بالوكالة، وهي عقوبة لأن نقله إلى دمشق بعد سطوته في حلب يجعله كمسؤول متوسط القيمة في مكان يعجّ بالمتنفذين، ولأن صفة الوكالة تبقيه مهدداً بأن يصبح نائباً لرئيس قد يُعيّن في أي وقت، وهذا ما لم يحدث. ستشير الأخبار إلى أن إقالة التاجر من فرع فلسطين كانت من أول القرارات التي اتخذها بشار في صيف عام2000، ثم يشير بعضها إلى وفاته “أو مقتله” في صيف2003 وهو في منصب نائب رئيس المخابرات العسكرية، ولا تضارب بين الاثنين. ففي مثال على آلية الترفيع، طالب تجار حلب بشار الأسد عندما كان يُعَدّ وريثاً بإقالة محافظ المدينة المتهم بالفساد، فأقاله وعيّنه رئيساً للوزراء مع إشادة لم ينلها سلف أو خلف له بنظافة يده.
في حادثة مشابهة، كانت شبهات الفساد قد شاعت في ما يتعلق بأعمال ترميم الجامع الأموي، وكان حافظ الأسد قد قرر ترميم الجامع من أمواله الخاصة، متبرعاً بـ500 مليون ليرة سورية، وهي المرة الوحيدة التي يُذكر فيها رسمياً شيء ما عن ثروته وبلا حرج من ضخامة المبلغ. أيضاً، يُقال أنه استدعى رئيس لجنة الترميم، وقال له مستنكراً: أتسرق من أموالي؟ ألا يكفيك ما سرقته من…؟ إلا أنه كان سمحاً، فعفا عنه واكتفى بنقله إلى منصب آخر.
تبقى للسيارات رمزية سورية خاصة، فاستيراد السيارات ضمن الحقبة الأسدية كان مسموحاً فقط بين عامي2000 و2011، وكخطوة انفتاح من بشار في مستهل حكمه، لتبقى السيارة عزيزة المنال خلال أربعة عقود من حكم العائلة. ضمن هذه الندرة، صارت السيارة عنواناً للسطوة والسلطة، فعندما سُرقت سيارة بشار في حلب كان لسان حال السارق: لا يجوز لأحد غيرنا في هذه المدينة التي نسيطر عليها ركوب سيارة فارهة جداً؛ نحن الأولى بها. وهذا ليس بجديد، ففي السبعينات “على سبيل المثال” سُرقت في دمشق سيارة فخمة بلوحة خليجية، تعود إلى ابنة رئيس وزراء لسوريا في عهد الانفصال المتزوجة من أمير خليجي، ولم تأخذ التحقيقات وقتاً يُذكر للوصول إلى رفعت الأسد، إذ لا يتجرأ في الأصل أحد من خارج دائرة السلطة فيسطو على سيارة نادرة بمواصفاتها، واستدعى ذلك تدخل حافظ لدى شقيقه للإفراج عن السيارة كي لا تثير أزمة مع تلك الدولة التي تدخلت سفارتها لمتابعة الحادثة فوراً. أغلب الظن أن هذا الحال غير مسبوق في عصر السيارات، وربما له شبيه فقط في عصر الأحصنة، إذ نصادف نوادر عن ملوك أو ولاة منعوا الرعية من ركوب عربات يجرها عدد من الأحصنة مساوٍ لنظيره في عربة الوالي أو الملك.
لسنوات طويلة كانت سيارة بيجو504 تشير إلى مسؤول بعثي بمرتبة عضو قيادة فرع، وبيجو504 ستيشن تثير الرعب كسيارة مخابرات. المرسيدس لأمناء الفروع وأعضاء القيادة القطرية، وربما لأعضاء مجلس الشعب، إذا اختار الواحد منهم هذا النوع بموجب الرخصة الخاصة التي يحصل عليه العضو لاستيراد سيارة له، وهذا هو المكسب المالي الأول للعضو مع تسجيله في جمعية سكنية بسعر متهاود، ليربح الملايين إذا قرر بيع الشقة والسيارة. كانت تدابير السيارات تلك تحدث بإشراف من حافظ الأسد شخصياً، ويُروى أن دياب الماشي العضو في مجلس الشعب تأخر عمداً عن اجتماع يحضره الأسد، وسُمح له بالدخول لأن الأخير كان يلاطفه، فبادره وقت دخل بالسؤال عما أخره؟ أجاب الماشي بأنها زحمة المواصلات، إذ لا يخفى عن سيادته أنه باع السيارة بسبب حاجته إلى المال. وهكذا فهم الأسد استجداء الماشي، وأوعز بإعطائه رخصة لاستيراد سيارة أخرى.
وسوريا كانت لسنوات البلد الوحيد في العالم “وعلى الأرجح في التاريخ كله” الذي تُسجَّل فيه حالات زواج صورية، فقط بهدف بيع وشراء السيارات. فمن أجل عدم العبث بالتراتبية الصارمة لتوزع السيارات صدر قرار يمنع الشراء والبيع، ويسمح فقط بالتنازل عن ملكية السيارة لأحد أفراد العائلة، فراح الأخ مثلاً يتنازل عن سيارته لأخته، ثم يُعقد قرانها على شارٍ للسيارة كي تتنازل له عنها، وذلك في أجواء من الثقة بين أطراف العملية كي لا يمتنع الشاري عن التطليق!
بالتأكيد ما سبق كله يهون بالمقارنة مع الفظائع التي ارتكبتها العائلة خلال نصف قرن، لكن للتذكير بهذه الصغائر فائدة لجهة إظهار كيف يُربط تفصيل صغير مثل امتلاك سيارة بتراتبية السلطة، بل تُشدد عقوبة سرقة السيارات لردع اللصوص العاديين الصغار، بينما هناك حديث الآن عن عشرة آلاف سيارة مسروقة من لبنان لصالح الفرقة الرابعة. والأقوال المنقولة عن حافظ الأسد، الموجهة لمصطفى التاجر ورئيس لجنة ترميم الجامع الأموي، تقرّبنا من تخمين ما قد قيل مؤخراً في مشاجرة مع رامي مخلوف لاسترداد الأموال التي في حوزته، أو التوبيخ الذي ناله ضابط مخابرات قبض ملايين الدولارات من المتاجرة في معلومات عن المعتقلين أو على الحواجز. فلا يأخذنا حسن الظن والإرث العالمي للطغاة إلى أننا إزاء شخصيات دموية كبيرة، شخصيات من وزن هتلر وستالين وفرانكو مثلاً، ولا حتى من وزن كيم جونغ أون الملقّب بالوريث العظيم.
عمر قدور – المدن