لعل الكثير من التساؤلات تثار حول الأسباب التي باتت تشعر بعض الأمهات بالتوتر تجاه أطفالهن، وفيما إذا كنا يشعرن بالغربة تجاه أمومتهن.
وكذلك حول كون جلسات الأمهات العاملات باتت للشكوى من الأبناء والمجهود المطلوب منهن تجاههم. والتي تدلل على التذمر من العبئ الكبير على الأمهات من تربية الأطفال ورعايتهم، حيث بات يرى البعض أن ما يمكن تسميته باغتراب الأمومة عن النفس والمجتمع والثقافة والقيم الاقتصادية الحاكمة، أصبح مثبت الوجود. فما هو اغتراب الأمومة؟ وكيف تأثرت المرأة العاملة بتحديات ظروف العمل وتأثيرها على تربية الأبناء في ظل تطور الحياة وزيادة متطلباتها.
ما هو اغتراب الأمومة؟
يُعرّف الاغتراب لغة بالنزوح عن الوطن، واغتِرابُ النّفس هو شعورها بالضياع وَالاستلاب، كما يستخدم هذا المصطلح في عدد من المواضيع الإنسانية، كعلم الاجتماع والفلسفة والتحليل والعلاج النفسي.
في العام 1961 طوّر عالم الاجتماع الأمريكي لويس فيور، مفهومه عن الاغتراب وأنماطه، ملخّصا الاغتراب في ستة محاور رئيسية، أولها الاغتراب عن الذات، وثانيها انعدام المعنى، وثالثها غياب المعيار والمرجعية، ورابعها العجز والشعور بفقدان السيطرة على المصير، وخامسها الوحدة والانعزال عن المجتمع، وآخرها الانعزال عن الثقافة المجتمعية السائدة.
في حال الأمومة يتشكل للأنثى جسد جديد، مختلف عن جسد الأنوثة البِكر، جسد يحمل حياة جديدة، متصل ومنفصل في آن، متصل بالحبل السري لتسعة أشهر، ثم متصل بالرضاعة، فيخلق مشاعر دافقة وحارة ومختلفة، إلا أنه هذه المشاعر قد تواجه تحديا صعبا، ألا وهو الاغتراب عن الجسد لجسد جديد غير مألوف، وعادة غير مرغوب به. البطن التي تتحول من بطن مشدود لبطن متكور، والأثداء التي تفقد استدارتها، والعضلات التي تبدأ بالترهل تدريجيا، وصراع البحث عن كساء يلائم هذا الجسد.
يفسر عبد الوهاب المسيري حالة الاغتراب الجسدي بالنسبة للنساء عموما وفي أدوار الحياة العامة بما يسميه عَلمنة الجسد، فالمقاييس الجمالية المطلوبة من المرأة غير متناسبة مع وظائفها الإنسانية كأم بحسب المسيري، إن اختلاف جسد المرأة بعد الزواج والإنجاب والرضاعة يضرب المقاييس الجمالية القياسية المقدمة من شركات الموضة والجمال في الصميم، وهو ما يخلق صراعا ليس فقط مع تحول الجسد لشكل مرفوض اجتماعيا، بل يخلق أيضا صراعا خفيا مع المُسبّب وهي الأمومة.
في عصر السوق، وفي المدرسة، تتعلم الفتيات بجوار الفتيان كيف يكنّ ويكونون أيدٍ عاملة في هذا السوق. تتحول المدارس من أداة تعليم لأجل المعرفة والعلم إلى مصنع يعد عمال وموظفي المستقبل، السوق بحاجة دائمة لأيد عاملة -على اختلاف الرتب الوظيفية-، ونجاح السوق مرتبط بالاستهلاك الدائم غير الرشيد بالضرورة، “في السوق لا يوجد نبل، في السوق لا يوجد بطولة، في السوق لا يوجد حقيقة ولا عدل”، وفي السوق أيضا لا توجد قيم ولا أمومة، بحسب ما أشارت إليه، المختصة في شؤون المال و الأعمال، نبال زهري، خلال حديثها لـ”الحل نت”.
بينما يوجد في عالم السوق أيد عاملة ولا توجد أمهات، ولا يوجد إنسان، إن ظهرت المرأة فهو ظهور ملتبس، المرأة في عالم السوق هي أنثى بمعايير جسدية، وعرض وطول معيّنان، بحواجب وشفاه متغيرة حسب موضة السنة، ويفضل لها ألا ترتبط بعلاقات طويلة، فهي امرأة قوية مستقلة، بلا عضد، ولا زوج، ولا أخ، متحررة من كل السياقات الاجتماعية التي يمكن أن تعيق إنتاجها، في السوق توجد “الموديل”، ولا توجد الأم.
في عالم السوق تُحث الأمهات على الخروج إلى العمل، عمل مشروط حسب معايير السوق، ثمان ساعات متواصلة، بمعايير جسدية معينة، وبهدف إنتاجي مشروط مسبقا، القيمة العليا هي قيمة الإنتاج المادي المحسوس بدءًا من أول الشهر، ذي المقابل المالي المقبوض في آخر الشهر، والمصروف بينهما، أما اللافتة الكبرى المعلقة فهي لافتة “تحقيق الذات”، وفق زهري.
الأمومة المبكرة توازي اغتراب الأمومة؟
في المقابل وفي سياق مواز، فإن الأمومة المبكرة حمل يثقل كاهل يؤرق حياة الشابات الصغيرات في العمر، رغم أن الأمومة غاية تتوق إليها كل امرأة، وحلم يراود كل فتاة، فتجدها تمارس هذه المشاعر الفطرية مع كل الذين من حولها حتى مع ألعابها الصغيرة، ورغم ذلك تظل الأمومة قرارا صعبا يتطلب الكثير من النضج والوعي، لأنه واجب ومسؤولية تلقى على عاتق الأمهات، مما يفرض عليها أن تكون مؤهلة لتحملها.
هذا ويعتبر تحديد العمر المناسب للأمومة، أحد الأمور المثيرة للجدل في كثير من المجتمعات، في ظل إقبال ملموس من الأسر على زواج بناتهن في عمر مبكر، ليجدن أنفسهن أمهات ومسؤولات عن رعاية أطفال وهن دون العشرين من عمرهن .
وحول الإنجاب في سن مبكرة ومدى تأثيره على صحة الأم، أظهرت دراسة طبية أجريت في جامعة ميشيغان الأميركية، ونشرت في وقت سابق، أن النساء اللواتي ينجبن وهن مراهقات، تزيد لديهن بشكل ملحوظ إمكانية المعاناة من الوزن الزائد أو السمنة لاحقا في حياتهن. حيث قالت الباحثة المسؤولة عن الدراسة، تامي شانغ “إنها المرة الأولى التي نجد فيها أن الأمهات الصغيرات في السن هن المجموعة الأكثر عرضة لخطر السمنة”.
كما أثبتت دراسة فنلندية أن السيدات اللاتي يحملن في عمر متأخر يتمتعن بحياة أطول من غيرهن اللاتي ينجبن أطفالهن في شبابهن. وقال باحثون من جامعة “تركو” الفنلندية، إن نتيجة البحث الذي قاموا به كانت مفاجئة لهم. وكشفت الدراسة أن إنجاب الأطفال في سن مبكرة أو إنجاب الكثير من الأطفال، لم يؤثر كثيرا على عمر السيدات، وقال فريق الباحثين إن هناك احتمالا لوجود علاقة بين توقف الحمل وحدوث تدهور في الصحة العامة.
الباحثة الاجتماعية، سامية عامر، تقول خلال حديثها لـ”الحل نت” بأن الأمومة المبكرة جريمة حقيقية ترتكب بحق الفتاة وتعد أحد أشكال الاغتصاب المقنن، “يغتصب حق الفتاة في الاستمتاع بطفولتها، وغالبا ما يسلب منها أيضا حقها في التعليم حينما تتزوج في هذا السن المبكرة. هذه الظاهرة للأسف مازالت منتشرة في كثير من المجتمعات العربية التي يقبل فيها الأهالي على تزويج بناتهن مبكرا، سواء بدافع الفقر أو التخفيف من أعباء الأسرة المادية بزواجها، أو حتى تماشيا مع ثقافة بالية تسعى إلى تزويج الفتيات الصغيرات بدافع الستر”.
وتضيف بأن الأمومة ليست فقط في الحمل والإنجاب، “هي مسؤولية كبيرة تتطلب أن تكون الأم ناضجة فكريا ونفسيا ولديها الخبرات الحياتية بالشكل الكافي لكي تستطيع التعامل معها، فالزواج وتربية الأبناء رحلة حياة يتخللها كثير من الصعاب والمشقات التي تستنزف أعصاب الأم الصغيرة، وبالتالي يصعب عليها القيام بهذا الدور الأسري على أكمل وجه، وهو ما ينعكس على افتقادهن خبرات التربية السليمة والتعامل مع أطفالهن”.
سيرين شاهين _ الحل نت