وصلت ظاهرة عمالة الأطفال في إدلب والشمال السوري عموما إلى مستويات خطيرة، لا تهدد مستقبل الأطفال فحسب، بل أيضا حياتهم وسلامتهم الجسدية. فبدلا من حمل الكتب والأقلام يبذل الأطفال جهودا مضنية في أعمال شاقة وخطيرة. مثل نقل وترتيب بقايا القذائف والصواريخ في مستودعات للحديد ومخلفات الحرب.
موقع “الحل نت” رصد وجود ورشة، بالقرب من مدينة معرة مصرين بريف إدلب، تعمل على معالجة بقايا القذائف وإعادة تدويرها، ومن ثم بيع الحديد الذي صنعت منه للمعامل المجاورة، والمواد المتفجرة للمقالع الحجرية، لاستخدامها في تفجير الصخور وتفتيتها. وتشغّل هذه الورشة ثلاثة أطفال، يتخذون من قذائف الموت مصدرا للرزق.
وتغيب إجراءات السلامة في الورش التي تشهد ظاهرة عمالة الأطفال في إدلب والشمال السوري. فيما يؤكد الأهالي أن أعداد الأطفال، الذين اصيبوا أثناء مزاولة أعمالهم الخطرة، مرتفعة جدا. إلا أن موقع “الحل نت” لم يجد إحصائية دقيقة لإصابات العمل بين الأطفال، بسبب عدم وجود منظمات مختصة، تهتم بهذا المجال في المنطقة.
فكيف صار التعامل مع المواد المميتة أحد أشكال عمالة الأطفال في إدلب والشمال السوري؟ وما الذي يدفع الأطفال لترك مقاعد الدراسة والعمل في مهن شاقة وخطيرة؟
أسباب عمالة الأطفال في إدلب والشمال السوري
لاقى نضال، البالغ من العمر ثلاثة عشر عاما، صعوبة في إيجاد عمل في مدينة إعزاز بريف حلب، فجميع الورش مليئة بما يكفي من العمال، وأغلبها تعتمد على عمالة الأطفال. وبعد جهد وتعب وجد عملا في أحد مغاسل السيارات في المدينة، مقابل ألف ليرة سورية في اليوم (حوالي ثلاثين سنتا أميركيا، حسب سعر الصرف المركزي ساعة كتابة التقرير).
يقول نضال لموقع “الحل نت”: “الحمد الله أني وفقت بالحصول على هذا العمل. فرغم طول مدته، التي تبدأ من السابعة والنصف صباحا إلى السادسة مساء، فهو أقل صعوبة من العمل في ورش إصلاح سيارات، أو ورش الحدادة والنجارة، أو العمل في جني المحاصيل الزراعية”.
ولدى سؤاله عن سبب عدم التحاقه بالمدرسة أجاب نضال: “توفي أبي في قصف على ريف إدلب الجنوبي، ونزحت مع أمي وأخوتي الثلاثة إلى مخيم ياز باغ العشوائي شمالي إعزاز، حيث نعيش في خيمة ونتلقى مساعدات قليلة جدا لا تكفينا. مما اضطرني، وأنا أكبر أخوتي، للعمل من أجل إعالة العائلة، ولكي يكمل أخوتي تعليمهم”.
أما سمير، البالغ من العمر أربعة عشر عاما، فهو أيضا مثال حي على عمالة الأطفال في إدلب والشمال السوري، ولكنه لم يكن “محظوظا” مثل نضال في الحصول على عمل “سهل”. فبعد بحث طويل في مدينة معرة مصرين شمالي إدلب، وجد عملا في إحدى ورش الحدادة.
يقول سمير لـ”الحل نت”: “في أول يوم لي في العمل عدت إلى منزلي في الساعة الخامسة مساء، وأنا غير قادر على تحريك يديّ. ولكنني تعودت على العمل مع مرور الأيام، وصرت الآن أتقن التلحيم، رغم أني عانيت في البداية آلاما مبرحة في عينيّ. أحصل يوميا على ألف ومئتي ليرة سورية، لا تكفي أسرتي. لكنها تساعد والدي، الذي يعمل في النجارة”.
تأثير عمالة الأطفال على مستقبل مناطق سيطرة المعارضة
وعن أسباب عمالة الأطفال في إدلب والشمال السوري، ولجوء الأطفال للعمل في مهن شاقة وخطرة، يقول الصحفي محمد حلاق، العامل في قناة الجزيرة القطرية، والمقيم في إدلب: “الفقر والنزوح هما العامل الأساسي لانتشار هذه الظاهرة. خاصة مع قلة المساعدات المقدمة للعائلات النازحة”.
ويتابع حلاق في حديثه لـ”الحل نت”: “لا أتهم أحدا بالتقصير، فأنا أعلم حجم الضغط الواقع على كاهل المنظمات الإنسانية العاملة في الداخل السوري. ولكن الوضع مأساوي فعلا. فمعظم الأطفال العاملين فقدوا معيل أسرتهم، ويضطرون للكدح لإعالة أمهاتهم وأخوتهم. وهذا سيكون له تأثير كبير على الجيل الجديد في مناطق سيطرة المعارضة، فأرقام الأطفال خارج مقاعد الدراسة باتت مخيفة”.
ويستطرد الصحفي السوري بالقول: “الحديث عن عمالة الأطفال في إدلب والشمال عموما يجعلنا نتساءل عن جدوى التعليم في مناطق المعارضة أصلا. إذ نرى سنويا مئات الشبان والشابات يتخرجون من جامعات تلك المناطق، وأبرزها جامعتا إدلب وحلب الحرة، إلا أن غالبيتهم الساحقة لم يجدوا عملا باختصاصهم. وبحسب إحصائية غير رسمية فإن خمسة وثمانين بالمئة منهم انتقلوا للعمل اليدوي”.
ماذا تقول المنظمات الدولية؟
تعرّف الأمم المتحدة عمالة الأطفال بأنها “أعمال تضع عبئا ثقيلا على الأطفال، وتعرض حياتهم للخطر”. وتعتبر عمالة الأطفال انتهاكا للقانون الدولي والتشريعات الوطنية، فهي إما تؤدي لحرمان الأطفال من التعليم، وإما تتطلب منهم تحمل العبء المزدوج، المتمثل في الدراسة والعمل.
وتحدد المنظمة الدولية أسوأ أنماط عمالة الأطفال، وعلى رأسها الاستعباد والاتجار بالبشر وسائر أشكال العمل الجبري، وتجنيد الأطفال لاستخدامهم في النزاعات المسلحة، وأعمال الدعارة والأعمال الإباحية والأنشطة غير المشروعة. وكل هذه الأنماط يمكن رصدها في ظاهرة عمالة الأطفال في إدلب والشمال السوري.
وبحسب تقرير لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) فإن “أربعة من بين كل خمس أشخاص في سوريا يعيشون تحت خط الفقر. ما يدفع بالأطفال لاتخاذ تدابير قصوى للبقاء على قيد الحياة، مثل التوجّه إلى عمالة الأطفال، وزواج القصّر، والتجنيد للقتال، وذلك لمساعدة عائلاتهم”.
بدورها قالت منظمة “انقذوا الأطفال” (save the children) إن “اثنين من بين كل ثلاثة أطفال لم يعد باستطاعتهم الذهاب إلى المدرسة وإكمال تعليمهم، بسبب تفشي فيروس كورونا في الشمال السوري”.
وقدّرت المنظمة، نتيجة استطلاعها لإفادات حوالي خمسمئة معلم في سوريا، أن “حوالي 2.45 مليون طفل، في جميع أنحاء البلاد، أصبحوا خارج دائرة التعليم.”
ووفقا لتقرير المنظمة فإن “المدرسين، الذين أجابوا على الاستطلاع، اجمعوا على أن الفقر هو السبب الأكبر لترك الأطفال للمدارس. إذ أصبح الأهالي يعتمدون على عمالة الأطفال مصدرا للدخل”.
واشارت المنظمة إلى أن “حوالي ستين معلما قالوا إن انتشار فيروس كورونا كان له تأثير على استمرارية التعليم، وإن الخيار الوحيد المتبقي للأطفال هو التعلم عن بعد، الأمر الذي يتطلب إمكانيات لا يملكها عديد من الأطفال”.
سونيا كوش، مديرة استجابة المنظمة في سوريا، قالت إن “الحرب السورية دفعت ملايين العائلات إلى براثن الفقر. وأجبرت الأطفال على العمل، للبقاء فقط على قيد الحياة”.
جلال سليمان _ الحل نت