تأتي الأخبار من دمشق كما لا يشتهيها أحد من عشاقها، هنا في العاصمة التي كانت تضج بالأحياء والحياة، والصاخبة كحفل على سطح بناء، أو كساحة عيد يعلو فيها صراخ الفرح..اليوم تهرب الصور فاضحة أولئك الذين يرسمون لها صورة المدينة المشتهاة.
رسالة من ابن لأبيه القابع في مشفى (الأسد) الجامعي يرجوه فيها أن يصمد في وجه فيروس كورونا، وأن يطلب ما يشتهي من طعام وشراب، وأن لا يموت لكنها دمشق التي لم تعتد تحتمل هذا الجوع والعسف، وسكانها الراغبون بالرحيل اختناقاً.
صورة أخرى لإمرأة مرمية على رصيف مشفى المواساة، والقصة كما تروى أن أبناءها رموها عسى أن تجد من يرمي لها بعض الطعام والشراب، أو تموت بوحدتها ويأسها، وأما رواة الحكاية فيقولون أنها تصرخ بأسمائهم لكن لا مجيب وحدها وزارة شؤون النظام أخذتها حيث يُجمع المتسولون واللقطاء.
أما الأكثر بؤساً فهم أولئك الذين لم يعد أوكسجين دمشق وهواؤها العليل صالحاً لأن يبقيهم أحياء، وثمة حكايات عن أبناء يلقون بأهاليهم كبار السن في أقسام الإسعاف، ويعودون إلى بيوتهم بانتظار هاتف يخبرهم برحيلهم بأكياس سوداء دون مودعين.
في الأحياء الفقيرة التي لا تنفك عن نقل ضحايا الوباء إلى مقابر بعيدة في الضواحي ثمة من لا يقدر على شراء دواء يخفف من ارتفاع الحرارة أو الشعور بالاختناق، ومن ثم يسعون إلى زحام توزيع الرز والسكر مع احتمال العودة بفيروس قاتل إلى بيوتهم التي ستودع ميتاً مختنقاً آخر.
بالأمس حدثني صديق في دمشق كمن ينشر بشرى خير قال لي: على فكرة فيتامين C لم يعد متوفراً في الصيدليات، وإن وجدته فالعبوة سعرها 15 ألف ليرة، وكذلك الزنك، واسطوانة الأوكسجين بمليون ليرة فمن يستطيع البقاء حياً في هذه المدينة المخنوقة؟.
صديق آخر يسكن في جوار أحد المساكن يقول إنه أصيب برعب صوت المؤذن عندما ينفخ في الميكرفون في غير موعد الصلاة..ثمة ميت جديد اليوم وربما أموات.
في الريف الدمشقي بشرقه وغربه أخذ الفيروس حصته من أرواح السوريين فماذا يعني أن تشيع مدينة صغيرة كالتل عشرة من أبنائها يومياً، وكذلك حصة الريف الغربي بالعشرات، والغوطة تموت بصمت الحصار غير المعلن، وأما تلك القرى الغارقة في عتمتها وفقرها وجوعها فالموت مشتهى لحد الخلاص. صورة العجوز المرمية تقابلها صور اخرى تم اعتيادها حيث الأطفال المتسولون، والنسوة اللواتي يبعن ما يمكن، والمارة الحالمون بوجبة دجاج باتت مستحيلة على أغلبهم، وأما السادة فيلتقطون الصور تحت قبة برلمان الموتى اللصوص بابتسامات لامعة وذل دفين.
فيديو سريع منذ أيام لإمرأة مرمية على الطريق قيل إنها تعاني من كورونا، وآلاف التعليقات على أحوال الناس في البلاد المهشمة جاءت لتلعن وتدعو وتستغفر، وهذا أضعف الإيمان وأعظم ما يمكن لبشر يحتضرون على رصيف الوطن.