اتصل بي من الصين في اليوم السابق لعودته إلى دمشق، تحدثنا طويلًا، كان متفائلًا إلى حدٍّ ما، لكنني لم أشاركه في ذلك، ألحَّ عليَّ للمشاركة، بطريقة ما، في “المؤتمر الوطني” الذي ستعقده “هيئة التنسيق الوطنية”، لكنني اعتذرت. في اليوم التالي اعتقلته السلطات الأمنية بعد خروجه من مطار دمشق مع رفيقيه إياس عيّاش وماهر طحّان.
منذ أن اعتقل عبدالعزيز الخير في 20 أيلول/ سبتمبر 2012، لم أرغب في الكتابة عنه. حاولت مرة أن أكتب ولم أتابع؛ حاولت أن أكتب مقدمة للكتاب الذي أصدرته “دار ميسلون للطباعة والنشر” بتحريض مني (عبد العزيز الخير: مناضل من سورية)، وأعدّه وأشرف عليه رفيقه عدنان الدبس، لكنني لم أنجح. في الحقيقة لم أرغب، أو لم أستطع، أو لا أدري حقًا ما السبب الفعلي، ربما لأن الكتابة عن الأشخاص الأحياء، الغائبين عن نظرنا، الذين نحبهم، قد توحي بأننا ننعيهم، وهو ما لا أريده، وأخافه. عبدالعزيز الخير قطعة من الروح، تُشعرني الكتابة عنه، وهو غائب، أو في الأحرى مغيَّب قسرًا، بشيءٍ من الضيق والحزن في آن معًا.
لماذا أكتب عنه اليوم، ربما لأنني أشعر فعلًا برعبٍ مضاعف كثيرًا تجاه أوضاعنا عن ذي قبل. كنت أعبِّر دائمًا، طوال السنوات التسع الماضية، عن تشاؤمي، لكنني بتّ أشعر برعبٍ خانق، تدريجًا، مع تسرّب مصير بلدنا، ومصيرنا، من بين أيدينا، أيدي السوريين، وبأن المرحلة المقبلة، ربما تكون أشدّ خطرًا على سورية، والمنطقة كلها.
كنّا في هيئة واحدة عند انطلاق الثورة؛ قيادة “التجمع الوطني الديمقراطي” الذي أُسِّس في عام 1979، والذي كان يمثِّل المعارضة السورية في المرحلة قبل الثورة. لم يكن عبد العزيز محبوبًا من بعض أطياف المعارضة المعروفة، وهذا يُعيبها هي بالطبع، لا هو. وكثيرًا ما سمعت لومًا شخصيًا لي بسبب عملنا المشترك، عبد العزيز وأنا، خلال الأشهر الأولى من الثورة. بعض من هم خارج سورية من “السياسيين” كرهوه أيضًا، وغالبًا لأسبابٍ تُدينهم هم، لا هو.
طوال الأشهر الأربعة الأولى من الثورة، كنا نلتقي بصورة يومية تقريبًا، وهذه المرحلة وحدها تحتاج إلى كتابة الكثير عنها، لأنها حدَّدت عمليًا ما جاء بعدها على مستوى المعارضة. كنا نناقش كل شيء، لا أذكر أننا اختلفنا في الرؤية أو التقدير، إلا لاحقًا، وحول نقطة وحيدة: جدوى استمرار العمل في “هيئة التنسيق الوطنية”؛ فقد استمرّ عبد العزيز يراهن عليها إلى لحظة اعتقاله، على الرغم من تقييمنا المتقارب لقواها الرئيسة وأشخاصها، فيما قدمت استقالتي مكتوبة بعد مرور ثلاثة أشهر على تأسيسها، وقد ألحَّ عليَّ عبد العزيز ألّا أعلن استقالتي، وفعلًا فعلت، لكن أحد “أولاد الحلال” خارج سورية، وما أكثرهم، نشر خبر استقالتي من دون معرفتي، كشكلٍ من أشكال محاصرة “هيئة التنسيق” آنذاك باعتبارها “أقل ثورية” من “المجلس الوطني” الذي لم أرغب في الانضمام إليه، ولاحقًا “الائتلاف الوطني”.
جمعتنا نقاط كثيرة، لكن أكثرها أهمية كان العمل المستمر والهادئ على الرغم من تشاؤمنا إزاء مسارات الواقع السوري؛ فالتشاؤم لا ينبغي له أن يمنعنا من العمل بل عليه أن يزيده، على عكس أولئك المتشائمين الذين ينكفئون على أنفسهم ويغرقون في الإحباط، وعلى الضدّ من أولئك المتفائلين الذين لا يعملون شيئًا. لكن كان لعبد العزيز ميزة تتمثل بقدرته على إخفاء تشاؤمه أمام الآخرين، فقد كان حريصًا على بثّ الأمل دائمًا، ويشعر أنها إحدى مهماته المركزية في الحياة.
ينتمي عبد العزيز حقًا إلى المدرسة الراقية في الممارسة السياسية؛ المدرسة التي تؤكد على امتلاك وإتقان ثالوث الفكر والسياسة والتنظيم، وهناك قلائل ينجحون في أن يكونوا أبناء هذه المدرسة. الشائع غير ذلك؛ ممارسات سياسية سطحية، شعارات تأكل العقول والقلوب، ديماغوجيا، شعبوية مقزِّزة، صراخ وعويل، استقطابات وهمية ومعيقة، انتهازية ومصالح شخصية… إلخ.
في اللقاء الذي جمع “المعارضة وقوى الثورة”، في القاهرة 2-3 تموز/ يوليو 2012، أي بعد إعلان جنيف الذي صدر في 30 حزيران/ يونيو 2012 بيومين، حاولنا، أنا وعبد العزيز، إقناع أعضاء لجنة صوغ وثائق القاهرة التي كنّا من بين أعضائها الخمسة عشر، بإصدار بيان بقبول إعلان جنيف، لكنهم رفضوا جميعًا، ورأوا في ذلك ابتعادًا عن الثورة التي تهدف إلى إسقاط النظام. وللمفارقة، بعض من رفضوا هم الذين شاركوا في مؤتمر جنيف في كانون الثاني/ يناير 2014، واليوم لا تستطيع الثورة والمعارضة تحصيل جزء يسير مما جاء في الإعلان. بالطبع، لم يكن متوقعًا الحصول على شيء إيجابي من خلال قبول إعلان جنيف، لكن على الأقل كان من المهم أن نقدِّم أداء سياسيًا راقيًا وعقلانيًا، بدلًا من الضجيج والصراخ، وهي العدّة السياسية لكثير من المعارضين والسياسيين والناشطين، آنذاك واليوم.
يُتقن عبد العزيز الحديث السياسي الدقيق والمحسوب؛ فالكلمة مسؤولية والأداة الرئيسة للسياسة الراقية والعاقلة. مع عبد العزيز الخير هناك حديث عميق في السياسة دائمًا، واضح الرؤية، لا يغرق في الآني والمباشر واللحظي، مهما كان مؤلمًا ومستفِزًّا، ويصرف وقتًا طويلًا في التفكير في المستقبل والعمل من أجله. فيما تشعر بالحديث مع كثيرين غيره، خصوصًا خارج سورية، أنك في بازار أو في سوق الهال، أولئك الذين يسمّون تصريحاتهم وصراخهم وتوقّعاتهم “تحليلات سياسية”، ويؤمنون، علنًا أو سرًا، بأن “الفهلوية”، واللعب بالبيضة والحجر، والرقص على الحبال، وتحت الطاولة، وفي الكواليس، هو السياسة. لكنهم، هم أنفسهم، كانوا يتعاملون مع الدول والسفارات من وحي عقدة النقص تجاه الآخر، وبطريقة متخمة بالحماقة تارة، وبالشحادة والعويل تارة أخرى.
لا يستطيع المرء أن يجد تناقضات أو مفارقات في مواقف عبد العزيز السياسية عبر الزمن؛ فالبوصلة الوطنية الواضحة تحميه من “النطوطة” التي كانت، وما تزال، سلوكًا طبيعيًا لا يلقى أي استهجان عند الآخرين، فضلًا عن منهجه الفكري المتماسك الذي تحوَّل لديه إلى دم ولحم وأعصاب، والذي يتدخَّل بصورة تلقائية عند كل حدث. هذا لا ينفي أن عبد العزيز قد تطور، فكريًا وسياسيًا، خلال رحلته السياسية الطويلة، وهذا طبيعي وصحيح.
لا يدخل عبد العزيز في مهاترات شخصية، ولا يجرّه الآخر إلى مستنقعه، يُدير ظهره دائمًا للمعارك الصغيرة. لم يقف أبدًا عند من رشقوه بالبيض في القاهرة في تشرين الثاني/ نوفمبر 2011، تصنَّع شيئًا من الحزن والغضب، أمام أحد المشاركين في “الغزوة”، لإشعاره بخطئه فحسب، وانتهى اللقاء بـ “الصلح”. على المستوى الشخصي؛ الاتفاق مع عبد العزيز اتفاق، والكلمة كلمة، لا يغدر ولا يدير ظهره لمن اتفق معهم. لا تخلو روح عبد العزيز من طموح سياسي، وهذا طبيعي. لكنه لا يستطيع، ولا يفكر في، أن يسير بطموحه على جثة غيره أو جثة وطنه. الخلاف مع عبد العزيز جميل وممتع، لأنه خلاف دقيق ومحدَّد، لا كما هو شائع؛ تختلف مع أحدهم، فلا يترك وسيلة أو طريقة للحطّ من قيمتك أو مكانتك.
عبد العزيز من الأشخاص الذين يعرفون الخجل، وقلائل هم من يعرفونه. أكثرهم لا يملكون موهبة النظر في المرآة والتأمل في الذات، وفيما يجري. يعيدون الخطأ ذاته ولا يتعلمون، ولا يخجلون من تكراره، ولا من الفشل المتكرِّر. لا تنقصه اللباقة أبدًا، لكنه بعيدٌ من أن يكون ذيلًا لأحد، أو أن ينافق سفيرًا أو دبلوماسيًا، أو أن يتمسَّح بمسؤول إعلامي ما بغية دعوته إلى الظهور على شاشة قناته الفضائية.
عبد العزيز الخير، بالطبع، غير مسؤول، بعد تغييبه قسرًا، عن أي مواقف أو خيارات سياسية اتخذها حزبه أو الهيئة التي كان موجودًا فيها، ولا عن أي تحالفات أو اصطفافات حدثت في غيابه؛ فبصمتة السياسية الراقية واضحة، وتستحق التقدير، ولا يمكن إنكارها إلا من جانب كلِّ من لا ضمير له.
حازم نهار _المدن