مع فوز بشار الأسد بالانتخابات الرئاسية السورية، في أيار الماضي، انطلقت مسيرات مؤيدة من مدينة القرداحة (مسقط رأس الأسد)، تقودها سلسلة من السيارات الفارهة بأنواع عديدة، بينما يقف السوريون على طوابير الخبز والغاز لتحصيل أعداد محدودة من السلع الأساسية للعيش.
وتكررت هذه المسيرات في العاصمة دمشق، بحسب ما نقلته قناة “الميادين” المقربة من النظام، إذ انطلقت مسيرة مؤيدة في سلسلة من السيارات، تقودها سيارتان من نوع “هامر” الفارهة.
هذه المظاهر من الثراء لدى سوريين تظهر بشكل متكرر إما في فعاليات اجتماعية لرجال الأعمال وإما عبر صور في مواقع التواصل الاجتماعي، في الوقت الذي يواجه النظام السوري وداعموه قانون “قيصر”، الذي تفرض بموجبه الولايات المتحدة عقوبات على مسؤولين منتمين إلى النظام وداعمين له، منذ 16 من حزيران 2020، وفي مقدمتهم رئيس النظام، بشار الأسد، وزوجته أسماء الأسد.
وينص قانون “قيصر” على تجميد مساعدات إعادة الإعمار، وفرض عقوبات على النظام السوري وشركات متعاونة معه ما لم يحاكَم مرتكبو الانتهاكات، ويستهدف أيضًا كيانات روسية وإيرانية تدعم أو تتعاون مع النظام السوري.
انخفضت قيمة الليرة السورية بشكل مباشر قُبيل تطبيق قانون “قيصر”، ليتخطى سعر صرف الدولار في عام 2020 حاجز 5000 ليرة، لكن سعر الصرف عاد بعد عام تقريبًا إلى الاستقرار عند حاجز 3200 ليرة وسطيًا.
ويفتح ذلك تساؤلات حول مدى تضرر النظام السوري من العقوبات، وما أدوات رجال أعماله لتجاوزها والالتفاف عليها، وهل تؤثر العقوبات على “السوريين العاديين” وتدفعهم إلى الفقر أكثر فأكثر دون أن تمس “حيتان الاقتصاد” الداعمين للأسد.
عقود من العقوبات.. هل عُوقب النظام فعلًا؟
صدرت قوانين العقوبات بحق النظام السوري منذ ثمانينيات القرن الماضي، واستمرت وصولًا إلى قانون “قيصر”، وخلال عشرات السنوات، أجبرت العقوبات النظام على دفع ثمن سوء إدارته للعلاقات مع دول العالم، وتدخله في شؤون الدول الأخرى، بحسب ما قاله الخبير الاقتصادي ورئيس “مجموعة عمل اقتصاد سوريا”، أسامة القاضي.
واعتبر القاضي، في حديث إلى عنب بلدي، أن قانون “قيصر”، في المقام الأول، هو رسالة أمريكية لروسيا، باعتبارها الجهة التي تحمي الأسد، ومفادها أنه لا توجد إعادة إعمار قبل إعادة السوريين إلى منازلهم سواء من السجون أو من دول اللجوء، بالإضافة إلى وقف قصف المدارس والمستشفيات.
إذ يجرّم قانون “قيصر” أي دولة أو شركة تحاول التعامل مع النظام السوري قبل أن يعود السوريون إلى منازلهم من أماكن لجوئهم أو سجونهم.
ورغم أن مطالب الشعب السوري لمعاقبة نظام “شمولي” عمره أكثر من 50 عامًا، كانت أوسع من بنود ومحتوى قانون “قيصر”، أتت إجراءات الإدارة الأمريكية بالحدود الدنيا لهذه العقوبات التي طالب بها السوريون، بحسب القاضي.
ولم تتدخل الولايات المتحدة عسكريًّا لإنهاء معاناة السوريين، كما تدخلت في ليبيا بعد ستة أشهر من اندلاع الثورة الليبية، ولم يضغط الأمريكيون بشكل كافٍ للدفع بهذا النظام إلى الاستقالة أو التنحي لتخفيف الظلم عن الناس.
وأشار القاضي إلى خطاب رئيس النظام السوري، بشار الأسد، عندما قال إن قانون “قيصر” ليس ما يقف وراء تردي الوضع الاقتصادي في سوريا، موضحًا أن هذا التردي يرجع إلى تهريب الأموال بالمليارات إلى خارج سوريا، بالإضافة إلى “منظومة الفساد” التي تعاني منها سوريا.
وأضاف أن المسؤولين عن هذا الفساد هم منظومة النظام الاقتصادية ذاتها، سواء كانت شركات رامي مخلوف أو أفرادًا آخرين ممن يطلقون على أنفسهم أسماء رجال أعمال سوريين، وبالتالي فالنظام السوري هو من يتحمل المسؤولية.
كما اعتبر القاضي أن المسؤول عن تدهور قيمة الليرة السورية وندرة وجود القطع الأجنبي، هو النظام ذاته، عندما أقر المرسوم رقم “3“، الذي جرّم التعامل بغير العملة المحلية (الليرة السورية)، وأغلق مراكز الصرافة التي كانت سببًا بإدخال مليارات الدولارات إلى السوق السورية من خلال ملايين السوريين المقيمين في الخارج.
وصدر عن رئيس النظام السوري، عام 2020، المرسومان رقم “3” و”4” القاضيان بتشديد العقوبات على المتعاملين بغير الليرة السورية، ما تسبب بموجة خوف لدى سوريين بالتزامن مع ارتفاع نشاط دوريات الأمن الجنائي التي اعتقلت عددًا كبيرًا من الأفراد بتهمة التعامل بالعملات الأجنبية.
وأثار المرسومان موجة قلق بين الصناعيين السوريين، إذ صاروا في مواجهة احتمالية توقف عملهم بسبب عدم تأمين القطع الأجنبي اللازم لتمويل مستورداتهم من المواد الأولية اللازمة لصناعاتهم، فتبع إصدار المرسومين مطالب من كبار الصناعيين والتجار، بتسهيل حصولهم على القطع الأجنبي لتمويل استيراد المواد الأولية ومستلزمات الإنتاج.
هل ازداد الأثرياء ثراء
قوّض قانون “قيصر” النشاط الاقتصادي الخارجي لرجال الأعمال المقربين من النظام السوري، لكن نشاطاتهم الاقتصادية الداخلية التي تستمد شرعيتها “غير القانونية” من النظام السوري لم تتغير، وفق ما يراه الباحث الاقتصادي خالد تركاوي، في حديث إلى عنب بلدي.
ويحاول رجال الأعمال هؤلاء استغلال الاقتصاد السوري، سواء بوجود قانون “قيصر” أو غيابه، عن طريق التهريب وأساليب التحايل على العقوبات التي يتيحها النظام السوري، بحسب تركاوي.
ومن جهته، قال الدكتور السوري في الاقتصاد والباحث في معهد “الشرق الأوسط” بواشنطن كرم شعار، إنه من الصعب الفصل بين رجال الأعمال المقربين من النظام، والنظام السوري نفسه، واعتبرهم كيانًا واحدًا.
التحايل على العقوبات موجود منذ بداية فرضها، ويجري في الدرجة الأولى عن طريق إنشاء شركات كـ”واجهة” في بلدان أخرى، وغالبًا ما تكون في لبنان، أو في الإمارات، وأحيانًا في روسيا.
ويرى شعار أنه لا توجد طريقة لتعقب ثروات الأشخاص الفاعلين في الاقتصاد أو الأثرياء المقربين من النظام، لأن نشاطاتهم الاقتصادية تتركز في الداخل السوري، إلا أن قيمة ثرواتهم ونشاطاتهم الحقيقية غالبًا ما تكون أكثر بكثير من الأرقام المعلن عنها عند تسجيل شركاتهم، لأغراض تتعلق بالتهرب الضريبي.
ويعمد النظام السوري إلى إظهار وكلائه الاقتصاديين على أنهم رجال أعمال مستقلون يملكون شركات مستقلة، لكنهم في الحقيقة بأغلبيتهم مجرد واجهات اقتصادية يستغلها النظام السوري في عمليات التهرب من العقوبات الدولية.
بينما أشار الدكتور كرم شعار إلى وجود طبقة مستفيدة من تسهيلات يقدمها النظام للالتفاف على العقوبات الأمريكية والأوروبية، وهي الفئة القادرة على التهرب والالتفاف على العقوبات بطريقة أكثر ذكاء من خلال الأدوات التقليدية التي وصفها بـ”شركات الواجهة” أو “أفراد الواجهة”.
سوريون تحت خط الفقر
تقيِّد العقوبات الدولية نشاطات النظام السوري، وآثارها السلبية على النظام واضحة، إلا أنها سلبية أيضًا على المدنيين في الداخل السوري، إذ تعتبر أسلوب “عقاب جماعي” رغم استهدافها الطبقة المقربة من النظام، فآثارها السلبية على المدنيين تعتبر أحد “الآثار الجانبية”، بحسب ما قاله الدكتور كرم شعار.
وأضاف شعار أن التدهور الذي شهده الاقتصاد السوري خلال العام ونصف العام الأخيرين، هو الأسوأ خلال سنوات الثورة السورية، وأرجع هذا التدهور إلى عدة عوامل، أحدها العقوبات الدولية المفروضة على النظام السوري.
وأكد أن الفساد وسوء إدارة النظام لأزماته هو العامل الأكبر، وأن العقوبات الدولية لعبت دورًا سلبيًا أيضًا، لكنها لم تكن سببًا رئيسًا لدفع السوريين إلى ما دون خط الفقر.
ويعيش تحت خط الفقر في سوريا 90% من السوريين، بحسب ممثلة منظمة الصحة العالمية في سوريا، أكجمال ماجتيموفا.
وكانت المتحدثة باسم برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة، إليزابيث بايرز، حذرت من أزمة غذاء غير مسبوقة في سوريا، بسبب تفشي فيروس “كورونا المستجد” (كوفيد- 19).
وقالت المسؤولة الأممية، إن تسعة ملايين و300 ألف شخص في سوريا يفتقرون إلى الغذاء الكافي، وأوضحت أن عدد من يفتقر للمواد الغذائية الأساسية ارتفع بواقع مليون و400 ألف خلال الأشهر الستة الأولى من عام 2020.
خالد الجرعتلي_ عنب بلدي