تتجمع سحب الحرب الإقليمية والدولية وتتلبد في السماء السورية، لم تعد تكتف الدول بصندوق البريد السوري، لأن الصراع (ربما) لن يعود رمادياً أو بالوكالة ولم تعد للرسائل فائدة أو معنى، فقد تم إرسال الكثير منها وبمختلف أنواعها، وغالباً ما كان سعاة البريد هم السوريون أنفسهم، يمتطون دراجاتهم لنقل البريد لأصحابه دون معرفة بمحتويات المظاريف التي يحملونها، وغالباً تلك الرسائل لا علاقة لها بقضيتهم ولكن تكتب بمداد من دمائهم.
حمل البريد السوري كل الرسائل الدولية، فعلى سبيل المثال كان وقع الاتفاق النووي البائد يُسمع صداه فوق الأرض السورية قبل ولادته وبعد نحره، وكانت مخاضات ولادة الاتفاق القادم (والذي لفظ أو يلفظ أنفاسه الأخيرة) ولم تنجح كل العمليات القيصرية لإبصاره النور، وكانت سورية من أهم غرف المخاض.
كان للتوءم السيامي السوري الأوكراني نفس الحكاية، حاول بطرس الأكبر الصغير مبادلة قطعة اللحم التي افترسها من أوكرانيا بأشلاء السوريين الذين قتلهم، ولم يوافق الغرب على المقايضة فلم يكتف بطرس الأصغر بما حققه فقرر افتراس أوربة أو إعطابها بأسنانه فاندفع ذلك التمساح المفترس إلى المستنقع الأوكراني على أمل عبوره إلى الضفة الأخرى، فغرق فيه ولم يدر أن للغابة الدولية أسد عجوز بايدني أمريكي يحميها، وأن أوراق خريف القارة العجوز المتساقطة ستصبح خضراء يانعة، فلننتظر دموع التماسيح الذي سيذرفها التمساح الروسي المغرور الأحمق.
الحروب الثلاثة على الأرض السورية
- الحرب (أو الصراع الروسي – الأمريكي)
كان الغزو الروسي لأوكرانيا هو قطع لشعرة معاوية بين الولايات المتحدة والاتحاد الروسي البوتيني، لقد لمس العالم أن المعركة أمريكية – روسية لن تكون عسكرية فقط كما هو جار الآن فوق الأرض الأوكرانية، بل ستكون حرباً عالمية مختلطة (ساخنة وباردة) بكل معنى الكلمة.
لن أخوض في احتدام المعركة الخشنة الجارية الآن في أوكرانيا وهي معركة صفرية، سيكون في نهايتها رابح وخاسر، بل هناك قرار دولي غربي قد اتخذ منذ اليوم الأول بعزل روسيا دولياً وبناء ستار حديدي حولها.
فمنذ الأيام الاولى للغزو استنفرت كل أذرع النظام الدولي لتحقيق ذلك، فبدأت سلسلة الإجراءات مالياً بإخراج روسيا من نظام سويفت العالمي وتجميد أصولها المالية وملاحقة أباطرة المال الروسي القريبين من بطرس الأصغر.
اقتصادياً كان شلُّ سلاح بوتين من الطاقة الأحفورية أهم الأهداف التي يتم التسديد عليها.
دبلوماسياً كانت نتيجة التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة أظهرت أن من وافق بوتين على غزوه أربعة أنظمة مارقة من بين 200 دولة في الأمم المتحدة مروراً بطرد موسكو من مجلس حقوق الإنسان بجنيف (وهو يتبع للأمم المتحدة) وليس انتهاءً بحرد وزير الخارجية الروسي لافروف وعدم إكماله لمؤتمر قمة وزراء خارجية الدول العشرين الذي عقد مؤخراً في جاكرتا، العاصمة الإندونيسية وسافر مبكراً لأن أحداً من الوزراء الحاضرين لم يلتقه.
لم يوفر الغرب أي فرصة لعزل روسيا عن منظمات دولية مهمة، كطرد الاتحاد الروسي لكرة القدم من الفيفا وتعليق مشاركة المنتخب الروسي بكل الأنشطة الدولية، ومؤخراً جرى إيقاع موسكو بفخ رفضها لقرار دولي لإدخال المساعدات الأممية إلى السوريين وعدم إجراء أي اتصال أمريكي معها لثنيها عن ذلك، واستكمال ملف شيطنتها بعد اتهامها بارتكاب عشرات جرائم الحرب في أوكرانيا وإلقاء الضوء على جرائمها في سورية وإخراجها للأضواء.
ويتم تداول أخبار غير رسمية عن نية واشنطن لإخراج موسكو من العضوية الدائمة لمجلس الأمن بعد إجراء إصلاحات عليه، وضم آخرين ومن الممكن إلغاء حق الفيتو، وهو أحد أهم أسلحة موسكو السياسية الدولية.
ولكي يتم بناء ستار حديدي حول روسيا لابد من تحويلها إلى كوريا شمالية أخرى، وبالتالي إخراجها من مناطق نفوذها التي بنتها في عهد الصعود البوتيني، سواء أكانت قواعد ومناطق نفوذ روسية خارج حدودها أو علاقات دولية قوية مع قوى مهمة، وسورية إحدى أهم مناطق النفوذ الروسي خارج حدودها، بإطلالتها البحرية على شواطئ المتوسط، وتمكن بوتين من إقامة علاقات قوية مع القوى الإقليمية الأربع في الشرق الأوسط، وساعده بذلك النفوذ الروسي في سورية، حيث أنشأ بوتين علاقات ممتازة مع إيران وإسرائيل وتركيا والكتلة العربية (مجلس التعاون الخليجي ومصر)، وقد شعرت واشنطن بمدى اختراق موسكو بشبكة علاقات قوية مع الحلفاء التقليديين الأربعة بعد الحرب الروسية على أوكرانيا.
وكون أن القرار الغربي بعزل روسيا قد تم اتخاذه فعلاً، وتم إعلانه على الملأ خلال قمة الناتو الأخيرة في مدريد، وأن روسيا هي العدو والخطر الأكبر على الحلف (بعد أن كانت شريكاً استراتيجياً)، ولكي تتمكن واشنطن من ضمان نجاح منصتها الإقليمية الجديدة في الشرق الأوسط مع حلفائها لابد من إخراج روسيا من سورية، كي تتمكن تلك الدول من السير في الخطط الاستراتيجية الأمريكية.
طبعاً لا يخفى على الروس ذلك المسعى الأمريكي، ولا يخفى على الأمريكان مسعى الروس للهروب إلى الأمام من المستنقع الأوكراني من توتير الأجواء، الذي قد يصل لحرب في الشرق الأوسط منطقة النفوذ الأمريكية التقليدية ومنبع الطاقة، وخطوط نقلها الضرورية الآن للاستغناء عن الطاقة الروسية.
رداً على قطع الأمريكان لكل الاتصالات مع الروس وإغلاق الخطوط الحمراء العسكرية أيضاً في سورية، قام الروس بتغيير قواعد الاشتباك، والمجازفة بحافة هاوية مع الجيش الأمريكي عبر قيام طائرات روسية بقصف قاعدة التنف تحت ذرائع واهية، رد عليه الأمريكان بتسليح نوعي وتدريبات جديدة لجيش مغاوير الثورة، وتم تسجيل مضايقات لطائرات روسية لنظيرتها الأمريكية شرق الفرات، وتم إرسال تعزيزات نوعية لمطار القامشلي مع تفعيل انتشار لقوات النظام والوساطة بين قسد والنظام لتشكيل غرف عمليات بحجج التصدي للجيش التركي وهي في الحقيقة استعراض عضلات أمام القوات الأمريكية.
لن تخرج روسيا من سورية بسهولة ولكن ليس من الصعب على التحالف الغربي فعل ذلك، ولا يعرف المدى الذي سيؤول إليه الصراع بينهما فوق الأراضي السورية.
- الصراع الإيراني – الإسرائيلي
مع إقرار دولة الاحتلال الإسرائيلي لاستراتيجية الأخطبوط في صراعها مع نظام الملالي، وتفعيل العمليات بمختلف انواعها داخل إيران نفسها، إلا أن الساحة السورية تبقى المفضلة لكلا الطرفين باستعار الحرب الرمادية بينهما، خاصة في ظل ما يتردد عن العزم على إنشاء منطقة آمنة في الجنوب السوري، تمتد من الجولان المحتل لحدود قاعدة التنف، خالية من تواجد الميليشيا الإيرانية متعددة الجنسيات.
- العمليات التركية المرتقبة في الشمال السوري
تبدو تركيا عازمة على تحقيق منطقتها الأمنية لها والآمنة للسوريين، ولو على مراحل، ولن يتم تحقيق ذلك تباعاً حتى نهاية العام الجاري.
هذه العملية يرى بعضهم أنها نتيجة طبيعية لتغير موازين القوى، وفرصة تاريخية لأنقرة ساهمت الظروف الدولية بتوفير شروط نجاحها.
إلا أنه من غير الثابت حالياً، من هي القوى الدولية التي تؤيدها ومن التي تقف ضدها، وغير معروف طبيعة الرد عليها من القوى المعادية لها، لاشك أنه سيتم إنجازها سريعاً لكن بعد ذلك كل الاحتمالات واردة.
لا ملف سوري الآن على أي طاولة دولية، تغيرت الحقبة الدولية التي صيغت بها قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بها وأصبح الشريكان المسؤولان عن الحل في حالة حرب الآن.
ولن تتوضح الصورة إلا بعد استنفاذ تداعيات الحرب في أوكرانيا ومآلات الاتفاق النووي، وهذه المرحلة لن تكون طويلة قياساً بعمر الكارثة التي تسبب بها محور الشر وغيره بحق سورية والسوريين.
باسل معراوي _ نينار برس