عندما وصلتُ إلى اسطنبول هارباً من الملاحقة الأمنية في سوريا، التقيتُ صديقاً هناك قال لي حينها: “لو كان بشار الأسد ذكياً لعمل على تأمين حياة مرفّهة للسوريين في الداخل حتى يصيبنا الجنون نحن المعارضين الذين خرجنا من البلاد” لكنّه ليس جديراً بفعل ذلك.
في أواخر آب/ أغسطس من عام 2017، وبينما كان بشار الأسد يلقي خطاباً أمام مؤيديه، قال جملة وقفت عندها وسائل الإعلام العربية والعالمية: “سوريا كسبت مجتمعاً أكثر تجانساً”.
كان حديث بشار الأسد، بالتزامن مع نزوح نحو 6 ملايين مواطن سوري، يبدو أنّهم كانوا يعكّرون “العملية التجانسية” على الأسد، وبمجرّد خروجهم أصبح المجتمع السوري متجانساً فوراً.
بعيداً من طبيعة هذا الخطاب، الذي لم يسبق الأسد إليه أي رئيس في العالم، لكن الواقع يشير اليوم بعد نحو ثلاث سنوات على هذه الجملة، إلى أن بشار الأسد ذاته لا يكن احتراماً لما بقي من المدنيين السوريين داخل سوريا، والذين يراهم بشار “مجتمعاً متجانساً”.
رغم نجاح الآلة العسكرية لنظام الأسد المدعومة بالروس والإيرانيين من استرجاع غالبية المدن والبلدات التي خسرتها سابقاً لصالح المعارضة، إلّا أن هذا النصر لم يكن سوى نصر شخصي للأسد وحلفائه، فالمدن التي “حررها” الأسد منذ سنوات ما زالت حتّى اليوم عبارة عن أكوام من الأنقاض، لم تُبنى حجرة واحدة فيها
أزمات عدة عصفت بسوريا والسوريين في داخل بلادهم، جميعها لم تدفع الأسد ليكلّف خاطره بالخروج وتقديم شرح لما يحصل، للمدنيين في مناطقه حتّى ولو كانت مجرّد طمأنة خلّبية.
كانت جائحة “كورونا” كفيلة بإخراج رؤساء أعظم دول العالم بشكلٍ يومي، للحديث أمام شعوبهم عن خططهم لمواجهة الفايروس وآخر المستجدّات والنصائح ومسار العمل الحكومي، إضافةً إلى كل تفصيل يتعلّق بالفايروس ومآلاته على المجتمع.
كل ذلك، ولم يخرج الأسد بأي خطاب، سواء عبر وسائل الإعلام أو عبر الانترنت ليقدّم أي شرح للسوريين حول مصير الفايروس الذي يأخذ مساراً تصاعدياً، اكتفى بتكليف فريق حكومي مترهّل لهذه المهمّة، يرأسه وزير الصحّة الذي قال في بدايات انتشار الفايروس إن “الجيش العربي السوري طهّر البلاد من جميع الجراثيم لذلك لا داعي للقلق”.
في ذروة جائحة “كورونا” عالمياً وخلال انتشارها في سوريا، ظهر الأسد للمرّة الأولى ليستقبل وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، وهو يرتدي كمامة فاخرة بريطانية الصنع، تحدّث عن العلاقات بين البلدين من دون أي توضيح للرأي العام السوري عن مصير الفايروس في البلاد.
خلال اللقاء قال الأسد: “إن أزمة كورونا فضحت فشل الأنظمة الغربية وأخلاقياتها، لأن هذا الوباء أظهر أن هذه الأنظمة موجودة لخدمة فئة معينة من المصالح وليس لخدمة شعوبها”، وفي الوقت ذاته، لم يقدّم الأسد أي شيء للسكّان في مناطقه إزاء الجائحة.
كان تفشّي الفايروس في سوريا متأخّراً من حيث التوقيت مقارنةً بتفشّيه في مصر والخليج العربي وأوروبا وتركيا، ففيما بدأت هذه الدول تخفيف إجراءات الوقاية وإعادة فتح المرافق العامة، بدأت حالات الفايروس في سوريا تظهر بشكلٍ متسارع في مناطق النظام السوري تحديداً.
هذا الأمر تبعه عزل مدن بأكملها مثل رأس المعرة وجديدة الفضل والسيدة زينب ومناطق أخرى في ريف دمشق، فضلاً عن تسجيل إصابات في مستشفى المواساة الحكومي، والتخوّف من تفشّي الفيروس في العاصمة دمشق المزدحمة بسكّان المدينة والنازحين إليها من محافظات أخرى.
بالتوازي مع ذلك دخل قانون “قيصر” حيز التنفيذ وتبعه هبوط مدوٍ لليرة السورية، وغلاء غير مسبوق في أسعار السلع الضرورية، إذ بات هناك مواطنون في سوريا يتقاضون 20 دولاراً شهرياً (أقل من دولار واحد في اليوم) علماً أن خط الفقر عالمياً يتشكّل عندما يحصل الشخص على أقل من دولارين يومياً.
وسط ذلك كله ظهر الأسد مرّة ثانية في رسالة مكتوبة، ولكن لم يوجّهها للمدنيين في مناطقه، ولم يتحدّث فيها عن “كورونا”، ولا عن كيفية تأمين الاحتياجات الأساسية للسكّان في مناطقه، أو حتّى طريقة التعامل مع تهاوي الليرة السورية، تجاهل كل ذلك ورماه جانباً وكأنّه لا يعني السوريين، ليتحدّث عما وصفه بـ”الاستئناث الحزبي داخل حزب البعث العربي الاشتراكي” وذلك بالتوازي مع بدء انتخابات “مجلس الشعب” الذي لم يفلح في عهد الأسدين، بتمرير قانونٍ واحد يخدم مصالح المدنيين.
وقال الأسد في رسالته: “حزبنا حزب عريق بتاريخه وتجربته الطويلة والغنية، التي أنضجتها سنون النضال على الساحتين الوطنية والقومية… وإن كانت تلك السنون قد حفلت بمحطات مضيئة من الفكر والتضحية والبناء، فهي لم تخلُ من الأخطاء التي يقع فيها الكثير من الأحزاب والتي أدت لتراجع دور الحزب في بعض المراحل، والإساءة إلى صورته في مراحل أخرى”.
وأضاف أن ذلك أدى إلى حالة من الركود الحزبي على المستوى الفكري والإجرائي لم يكسر جمودَه سوى محاولات كثيرين من كوادر الحزب الحريصة عليه والمتمسكة بمبادئه إعادة الحيوية للحياة الحزبية انطلاقاً من إيمانهم بعقيدته ووعيهم لدوره الوطني والقومي، داعياً إلى تجربة “الاستئناث الحزبي” لأنها “دليل دامغ على ديناميكية البعث، وتطوره، وقدرته على التكيف والانطلاق نحو المستقبل”.
على رغم نجاح الآلة العسكرية لنظام الأسد المدعومة بالروس والإيرانيين من استرجاع غالبية المدن والبلدات التي خسرتها سابقاً لصالح المعارضة، إلّا أن هذا النصر لم يكن سوى نصر شخصي للأسد وحلفائه، فالمدن التي “حررها” الأسد منذ سنوات ما زالت حتّى اليوم عبارة عن أكوام من الأنقاض، لم تُبنى حجرة واحدة فيها، وفقد أهلها الأمل في العودة إليها، في حين أن الوضع الاقتصادي يعيش هشاشة لم يسبق أن عاشها السوريون في تاريخهم الحديث أو القديم، وكذلك الأمر بالنسبة إلى السجون المليئة بالمعتقلين، إضافةً إلى المشكلات الاجتماعية التي أفرزها الفقر من تصاعد في السرقات والخطف والقتل وتزويج الفتيات المبكّر وعدم القدرة على تأمين الأدوية والأغذية اليومية.
اليوم بعد ذلك، يتّضح أن بشار الأسد ينظر إلى السوريين جميعاً نظرة واحدة، سواء من خرجوا ضدّه أم من لم يخرجوا، سواء من قاتلوا بجانبه أو قاتلوا ضدّه، سواء غادروا البلاد أم بقوا فيها، سواء كان المجتمع “متجانساً” أم لم يكن كذلك.
إحدى الروايات الأسطورية التي كان يتداولها السوريون تقول “أُكلت يوم أُكلَت النعجة السوداء”، ومختصر هذه الرواية أن ثلاث نعاج بينها نعجة سوداء، كانت تعيش في حالة خوف من ذئب قد يأتي ليأكلها، وفي أحد الأيام جاع الذئب وتوجّه نحوها فتآمرت النعجتان البيضاون على النعجة السوداء وسلّموها للذئب ليأكلها، وفي اليوم التالي عاد الذئب جائعاً مرّة أخرى إلى النعجتين البيضاوتان، فتآمرت إحداهنَّ ضد الأخرى وسلّمتها للذئب ليأكلها، وفي آخر يوم عاد الذئب جائعاً إلى النعجة المتبقّية، وقبل أن يأكلها قالت له: “أُكلتُ يوم أُكلَت النعجة السوداء”.
الكاتب: أحمد الأحمد/ درج