هناك ضبابية واختلاف رأي كبير حول قانون قيصر الاميريكي . فالسوريون الامريكيون ، الذين بذلوا جهودا كبيرة على اخراج القانون ، على مدى اكثر من اربع سنوات بعد المعرض الذي اقيم في مبنى الكونغرس لعرض صور سيزر الشائنة التي لامثيل لها الا في محارق الحرب العالمية الثانية ، يصورون ان هذا القانون انجاز غير مسبوق في التاريخ ( وهو ، في الحقيقة ، كذلك ، من حيث نصوصه التفصيلية المحكمة التي لم تترك متنفسا ، لا للسلطة ورجالها فقط ، بل وللاقتصاد الوطني ككل ، مما يشمل ، رغم استثنائها بصريح العبارة في نص القانون ، الحاجات الانتاجية ، كالاسمدة والالات التي تلزم الزراعة والصناعة للقطاع الخاص ولا تلزم السلطة ولا تخدمها ابدا ، وكذلك للحاجات الاستهلاكية وحتى الدوائية !
اني اكاد اسمع اصواتا تتهمني بالتخريف وعدم قراءة نص القانون الذي صيغ ، والحق يقال ، بطريقة بالغة الدقة والحصافة ، بحيث انه استثنى الحاجات الضرورية الحياتية للمواطنين من الخضوع للعقوبات والقيود ، بينما ركز بشكل بالغ الدقة على محاصرة المؤسسات والاشخاص الموسومين بارتكاب الجرائم ضد الانسانية ، مع كل من يدعمهم ، باي شكل ، في كل حركاتهم ، من سوريين وغير سوريين،لكن المشكلة ليست في النصوص ، بل بآثارها التطبيقية ، وحتى بعد سقوط او تغيير النظام .
فهذا نظام صدام حسين قد مضى على سقوطه سبعة عشر عاما ، ماتكفي لظهور جيل جديد لم يعش في ظل صدام ، ولكنه ليتمناه ، على فظاعته ، بديلا عن خلفائه ، الذين يعرفهم جيدا ، ولذلك يخرج متظاهرا ضدهم ، ومع ذلك فان العقوبات لم تلغ عن العراق بعد ، هذا والعراق تحكمه تحديدا القوى التي نصبها وائتمنها المحتلون الاميريكيون انفسهم ! والان ، بعد سبعة عشر عاما اهدر وسرق خلالها الف مليار دولار ،دمر العراق عن بكرة ابيه خلالها ولم يبن فيه محطة كهرباء واحدة او مصنع جديد او اعادة تاهيل محطات او مصانع ضخمة سابقة ، ومع ذلك نسمع عن تحديد موعد اجتماع اميركي _ عراقي قريبا للاتفاق على المسائل الستراتيجية ! واية مسائل استراتيجية ؟
فانصار القانون يتجاهلون ، اولا ، حقيقة ان كل تجارب الحصار والعقوبات في العالم خلال حوالي قرن لم تسقط نظاما واحدا ولو استمرت عشرات السنين ، وانما تسببت فقط بافقار عامة الشعب والتضييق على المواطنين في كل شؤونهم الحياتية باعطاء الحجج لحكامهم بالتشديد عليهم ، ليس اقل مما يفعلون لو تركوا لوحدهم بدون عقوبات. ولست هنا لاطلب او اتمنى الرحمة بهم بعد كل ما ارتكبوه ، وانما اضع هذه القضية بيد اولياء الدم ، لا بيد من كانوا ، مع النظام ، يستهدفون لسورية هذا المصير الاسود ، اذ انه بعد العقوبات تصبح الانظمة المحاصرة آمنة من اي رد فعل شعبي ضدها ، مما كانوا سيواجهونه لو كان المحكومون يتمتعون بشيء من قواهم الطبيعية .
وثانيا ، مادام النظام قائما ، فلن يقع احد من المطلوبين في شباك العدالة ، اللهم الا بالصدفة او ربما نتيجة سوء تقدير للمطلوبين انفسهم ،
وثالثا ، هناك دائما فرص كبيرة للافلات من الحصار ومن العقاب يتجول داخلها المعاقبون وثرواتهم المنهوبة براحة وامان ؛
ورابعا ، وهو ان من يقع في الشباك ضحية للقيود والحصارات والعقوبات هم الاقتصاد الشعبي ومجموع الناس العاديين البريئين غير المطالبين بشي من قبل احد !
مع بدء سريان قانون سيزر اخبرني احد الاصدقاء من احدى الدول الاوربية ان باكورة تطبيقات القانون هي ان التحويلات البسيطة التي كان يرسلها للاهل ليستمروا في استهلاك ابسط الضروريات المعيشية ويتمكنوا من البقاء في البلد ولا يتركوا ارضهم وبيوتهم للموات والنهب، اصبحت ممنوعة وتخضع للعقاب .
وقبل ذلك بسنوات ، وبناء على عقوبات سابقة على سورية ، ابلغت بعض البنوك الاوربية اصحاب الحسابات لديها من السوريين المقيمين شرعا ومنذ عشرات السنين على اراضيها ودون اي اشكالات عليهم تجعلهم مشمولين باي عقوبات، ان حساباتهم قد اغلقت، فقط لانهم سوريون !.
ولنقارن التعامل الدولي مع سورية ومع العراق . فبخصوص العراق ، بعد احتلال صدام المجنون للكويت وتدميرها وبعد اخراجه منها عام ١٩٩١ ، بعد تدمير جيشه ، الذي كان يوصف بانه ” الجيش الرابع في العالم “، اتفق جميع اعضاء مجلس الامن على اصدار قرار ينص على انشاء صندوق “النفط مقابل الغذاء” ، فكان ثمن صادرات النفط العراقي يوضع في صندوق تديره الامم المتحدة وتشتري بامواله جميع الحاجات الاساسية الضرورية وتوزعها على شكل سلل غذائية لكل الاسر العراقية مجان، لمواجهة المجاعة بسبب الارتفاع الفاحش للاسعار وانهيار القوة الشرائية للرواتب والاجور و مداخيل ذوي الدخل المحدود مع انهيار سعر صرف الدينار العراقي وانحطاط قيمة الراتب الشهري الى بضعة دولارات، وهو تماما ما يسير اليه الحال في سوريا في السنوات والايام الاخيرة.
وعند سقوط النظام العراقي كان مازال في هذا الصندوق فائض مقداره ١٨ مليار دولار ، (لاحقا ، بعد احتلال العراق عام ٢٠٠٣، سرقها المحتلون وزبانيتهم !).
بينما جميع اعضاء مجلس الامن ، بعد احتلالهم المشترك لسورية ، نجدهم صامتين عن سرقة النفط والغاز السوري ، ارضاء ، وبالقايضة ، لعضو واحد من بينهم يقوم بهذه السرقة وهو الولايات المتحدة ، بعد ان تترك لزبانيتها المحليين ، الذين يشتغلون حراسا لها ، فتاتا من هذه الثروة ، دون ان يهتم احد بتامين الشعب السوري من حاجاته الاساسية من المواد الغذائية والحاجات المنزلية والوقود والدواء التي تقيه من الموت جوعا، والسؤال هو : لماذا بادر اعضاء مجلس الامن بانفسهم الى اصدار قانون ” النفط مقابل الغذاء “، بينما لم يخطر ببال واضعي نص قانون سيزر الاميريكي ، ومن بينهم النشطاء السوريون الاميريكيون مثل هذا الاجراء ؟
هذا الكلام لم يقله احد ، وللأسف، حى الان ، بينما القانون له صفة الديمومة، رغم النص على حق الرئيس الاميريكي بوقف العمل به كليا او جزئيا لاحقا ، ليبقى كالعصا المرفوعة للابتزاز كلما لزم الامر ! فهل كان السوريون الاميريكيون الذين جاهدوا لاصدار هذا القانون قد فكروا باهلهم في سورية او في الشتات وحاجتهم ل ” قانون النفط مقابل الغذاء ” بدلا عن مؤتمرات دولية لاستجداء الغذاء بلا نتيجة، فهل فكروا بشعبهم، بل وباهلهم الذين سيكونون ايضا من ضحايا هذا القانون ؟
هذا في الوقت الذي لن تشعر السلطة يوما ، بسبب هذا القانون ، باي تضييق يستحيل الالتفاف عليه ، ليس بشان تامين حاجاتها الاساسية كسلطة قمعية نهابة ، بل ولا بشان تامين ملذاتها وهداياها الباهرة وحصادها من المليارات ، وتسديد الاموال للمحتلين ” الضامنين ” ؟
فالاهم ليس النصوص ، وانما التطبيق والآثار الفعلية على الارض وعلى مستقبل الدولة ومستقبل الابناء ، بل والنيات المختبئة خلف النصوص البراقة للقانون . فلماذا لم يصدر هذا القانون منذ اربع سنوات او خلالها ، مثلا ؟ ليصدر قبل ستة اشهر ، مربوطا ، بعجالة تصبح موضع تفاخر ؛ بقانون اكبر ميزانية لوزارة الدفاع الاميريكية ؟ اليس الجواب على هذا السؤال يكمن في ان الاحتلال الاميريكي للجزبرة السورية ، ارض النفط والغاز والثروات الزراعية اللازمة للشعب السوري ، لم يكن قد تم بعد ؟
ومع بدايات ظهور تباشير تطبيقات هذا القانون ، والتي هي اكبر من ان تحصر الان ، وبالطبع ليس من بينها قطع يد سراقي خبز الشعب السوري وشفاطي ثرواته ، رغم النصوص التي تسميهم ، وبالاحرى اعادة فلس واحد من هذه المسروقات لاصحابها الشرعيين ، والعراق ولبنان وغيرهما اوضح مثال على ذلك ، اليست هذه التباشير ، والكثير المقبل الاخطر منها ، ولا نعني بالطبع سقوط النظام وقدوم بدائله او شركائه المجهزين ، على ان هذا القانون يضر الشعب الجائع فقط ويضمن عدم قيام سورية الموحدة ، ولن تتضرر منه السلطة التي يتفاخرون بانهم خنقوها به !
وهناك كلام كثير يجب ان يقال لتوضيح هذه الحقيقة ، ولكن بدلا من ان يصل هذا الكلام الى الآلاف من خلال هذا المقال والندوات التي تعقد على النت ، كان يجب ان يصل الى الملايين عبر السؤال الذي وجه لي المساء الفائت على شاشة ” الحدث ” والذي لم تسعفني الدقائق القليلة المخصصة للجواب على استكمال هذا الجواب ، كما هو الان على هذه الصفحة ،
واخيرا ، لم يبق امام السوريين ، جميع السوريين ، الا إدراك حقيقة ان مصيرهم مرتبط باجتماعهم وبعودتهم الى الذات !
د.عارف دليلة / كلنا شركاء