لم تكن هناء الزمو (27 عامًا) تعلم أن زواجها من ابن عمها سيعود عليها بكل هذا الحزن والقهر حين أنجبت طفلين ذوي إعاقة، الأول عقليًا والآخر جسديًا.
قررت عائلة هناء تزويجها وهي صغيرة لابن عمها بتوجيهات من الآباء والجدات، وهو ما تم تنفيذه دون تردد حين غدت في سن الـ16.
لم تبدُ في الأمر مشكلة لها في بادئ الأمر، كون زواج الأقارب منتشرًا إلى حد كبير في قرية الرامي (قرية هناء)، جنوب إدلب، غير أن ما يحدث من إعاقات ناجمة عن هذا النمط من الزواج بات يلفت نظرها إلى الخطأ الفادح، ويثير في نفسها الخوف مما تحمله الأيام المقبلة.
توقفت هناء عن الإنجاب مرغمة، بناء على نصيحة الأطباء، خوفًا من ولادة حالات مشابهة، وهو ما وضعها في موقف صعب، خصوصًا أن زوجها بدأ التفكير بالزواج مرة أخرى لرغبته في إنجاب أطفال أصحاء، وهنا باتت هناء أمام خيارين “أحلاهما مر”، فإما أن تحمل وصمة الطلاق والزواج مرة أخرى، وإما أن تعيش لتربية أطفالها وتحمّل تبعات زواج زوجها بامرأة أخرى.
ويُعد زواج الأقارب من الموروثات الثقافية القديمة التي لم يستطع قسم كبير من سكان إدلب التخلص منها حتى اللحظة، ويشكّل هؤلاء تجمعات عائلية يُمنع الاقتراب منها والتفكير في مصاهرتها من خارج العائلة، حفاظًا على صلة القربى بينها، بغض النظر عن نتائج هذا الزواج، وما يسببه من ارتفاع معدل الإصابات بالأمراض الوراثية والتشوهات والأمراض المزمنة بين الأطفال، التي تنتهي بالموت المبكر لكثيرين منهم.
أما رابعة الحبوش (33 عامًا)، فتزوجت من ابن خالتها، وأنجبت أربعة أطفال، منهم اثنان يعانيان ضمورًا في الدماغ منذ الولادة، ولم تستطع بعد سنوات من التنقل بين المستشفيات والاختصاصيين معالجة حالتهما، رغم تكرار جلسات العلاج الفيزيائي والمتممات الغذائية، وهو ما أرجعه الأطباء إلى الزواج من قريبها.
وقالت رابعة لعنب بلدي، “أبي يرفض تزويج إحدى بناته لأحد من خارج عائلتنا، والأولوية كانت أن تتزوج الفتاة من قريب لها دون تردد، إلا في حال عدم وجود هذا القريب الذي يطلبها”.
ولطالما تساءلت رابعة في نفسها عن السر وراء تلك العادات والتقاليد، التي لا مبرر لها سوى الحفاظ على صلة القربى، وحصر الميراث في العائلة، لكن الأمر بات يشكّل جريمة كبيرة بحق الأبناء الذين يولدون ذوي إعاقة، وتتساءل، “ما ذنب هؤلاء الأطفال؟”.
الأمراض الوراثية
للوقوف على الأمراض الوراثية الناجمة عن زواج الأقارب، أوضح الطبيب محمد القدور لعنب بلدي، أن هذا النوع من الزواج يقف وراء الكثير من الأمراض، منها التشوهات العصبية والوعائية والعظمية، ومتلازمة داون، والثلاسيميا، وشلل الأطفال، والأمراض المزمنة.
وأكد الطبيب القدور ضرورة عدم التهاون، والعمل على إجراء تحاليل قبل الإقدام على الزواج، منعًا من انتقال الأمراض الوراثية للأطفال، والحد من استمرار تلك الأمراض في العائلة الواحدة.
من جهة أخرى، وإن لم يكن زواج الأقارب يشكّل مشكلة شخصية لبعض النساء، فهو كثيرًا ما يتسبب في ظلم بعضهن الآخر، ممن لا يرغبن بالزواج التقليدي، وهو ما توضحه سلام الكرمو (21 عامًا)، التي انفصلت عن ابن عمها بعد مشكلات زوجية متعددة، إذ لم يتقبل الزوجان بعضهما.
قالت سلام، إن زواج الأقارب منتشر في منطقتهم الواقعة جنوب إدلب، ولم تستطع سنوات الحرب والنزوح والبعد أن تنهي تلك العادات، بل زادتها قوة، خصوصًا أن العائلة راحت تطمئن للأقرباء المعروفين من قبلها، وتفضّلهم على الغرباء الذين لا يستطيعون الوصول إلى أصلهم وفصلهم وطباعهم.
غير أن سلام ترى أن المشكلات العائلية تزداد بزواج الأقارب، كما تشيع الفرقة والخلافات بين العوائل، وتتأثر علاقة الزوجين بمشكلات الأهل، والعكس بالعكس، ما قد يسبب لهما التفرقة والطلاق، كما حدث معها.
نزحت سلام عن بلدتها معرشمشة منذ ثلاث سنوات، إبان العمليات العسكرية الأخيرة، واستقرت مع أهلها وعائلة عمها في مخيمات “أطمة” الحدودية، فتزوجت من ابن عمها في تلك الفترة، ولم يدم الزواج أكثر من عام واحد.
تؤكد سلام أنها لم تتقبل معاملة ابن عمها لها بعد الزواج، جراء تعنيفه المستمر لها، الذي لم يكن ليزعج كلا العائلتين اللتين لا يريد أن يخسر أحد منهما الآخر.
ولأن سلام الضحية الأكثر تأثرًا من تبعات هذا الزواج، تمكّنت من الانفصال عن زوجها، ولكن ذلك حدث بعد تهديد أهلها بالانتحار إن أصروا على استمرار زواجها الذي فُرض عليها، وتسبب بمعاناتها.
ورغم كل ما يحيط بزواج الأقارب من عواقب مدمرة على الصعيدين الاجتماعي والصحي، تزداد هذه الظاهرة في إدلب بشكل ملحوظ، ما يهدد بمزيد من المشكلات العائلية، والارتفاع في نسب الأمراض والتشوهات بين الأطفال، مع عدم وجود أي إجراءات احترازية توعوية.
هدى الكليب _ عنب بلدي