باتَ مؤكدًا أنّ ثلاث زيارات للجنرال المقتول قاسم سليماني مع خرائطه إلى موسكو كانت كافية لإقناع الرئيس بوتين باتخاذ قرار التدخل في سورية، لكن هذا لا يعني أن موسكو كانت غائبة عن تفاصيل المشهد السوري، سواء من الناحية العسكرية أو السياسية؛ فآلة الحرب الروسية التي يمتلكها جيش الأسد، من طائرات ودبابات وصواريخ وحوّامات، كانت تقتل السوريين بموافقة وتـأييد من موسكو، ولو أرادت موسكو منع استخدامها لفعلت، لأن أحد أهم بنود صفقات السلاح “الأخلاقية” التي توضع بمفردات العقود، لكل الدول المصدرة للسلاح، يقول: “يُمنع استخدام تلك الأسلحة ضد شعب البلد المستورد للسلاح”.
ومن المؤكد أيضًا أن طهران ما كانت لتلجأ لموسكو، لولا يقينها أن كامل جهودها مع ميليشياتها ومرتزقة “زينبيون” و”فاطميون” و”الحشد الشعبي” و”حزب الله”، ومن قبلهم جيش الأسد، فشلت جميعًا في إنقاذ النظام وحسم المعركة، وأن هذا النظام بات مهددًا بالسقوط، كما قال الرئيس بوتين ووزير خارجيته لافروف لاحقًا: “لولا تدخّلنا لسقط بشار الأسد خلال أقلّ من أسبوعين”. وهذا الأمر أدركته طهران، وإن كانت أمنياتها أن تبقى وحيدة في امتلاك الكعكة السورية، حتى إن العميد حسين همداني (نائب قائد فيلق القدس والرجل الثاني في هرم القيادة الإيرانية في سورية) كان رافضًا بشدة الاستعانة بالجانب الروسي، وهناك من نقل عنه تهديده لبشار الأسد بالقتل، إن وافق على دعوة الروس للتدخل في سورية، على الرغم من الواقع المأساوي لجيش الأسد وحلفائه، وأن خامنئي أصدر أمرًا بتصفية العميد همداني، بعد هذا التهديد، وهناك معلومات مؤكدة أن الجنرال همداني لم يُقتل في معارك حلب، كما ادعت إيران، ولم يُقتل في جبهات حماة، كما قيل لاحقًا، بل دُبّرت له عملية اغتيال بسيناريو أعدّه ونفذه قاسم سليماني شخصيًا، ونُفذت عملية التصفية بعد أسبوعين من التدخل الروسي في سورية، نهاية أيلول/ سبتمبر عام 2015.
بعد سنوات ست من التعاون العسكري بين موسكو وطهران في سورية؛ أصبح المشهد شبه معروف للجميع، موسكو لا قدرة لها على التحكم في الجغرافية السورية، بالرغم من كل جهود طيرانها في قاعدة حميميم، وأن هناك ضرورة حاجة حتمية إلى عناصر المشاة الإيرانيين الذين زاد تعدادهم عن 100 ألف مقاتل على الارض السورية، لأن موسكو تعلم أن أبسط العلوم العسكرية تقول: “إن إنجازات ومهام الطيران، مهما قتلت ودمّرت، تبقى بحاجة إلى عنصر مشاة على الأرض لتثبيت تلك الإنجازات”، وروسيا تفتقر إلى هذا العنصر، ولا تستطيع في الوقت نفسه نقل فرقها العسكرية وعناصر مشاتها إلى الأرض السورية، لأن الوضع الداخلي في روسيا لن يحتمل مشاهدة التوابيت، وهي عائدة تحمل جثث الجنود لموسكو، وعودة استذكار الروس لمآسي أفغانستان مرة أخرى، حتى مرتزقة شركة “فاغنر” التي يترأسها صديق وطباخ “بوتين” رجل الأعمال “بريغوجين” التي زجّت بها المخابرات الروسية في سورية لتنفيذ المهام القذرة التي لا ترغب قاعدة حميميم في أن تنسب لها، فشلت ولم تستطع أن تقوم بكل المهام الموكلة إليها من جنرالات قاعدة حميميم، وهذا ما دفع موسكو إلى قبول الشراكة مع طهران في الحرب ضد الشعب السوري المنتفض على منظومة حكم الأسد الدكتاتورية.
بالمقابل، طهران تدرك أيضًا أن كل جهود ميليشياتها التي تنسق وتتعاون مع جيش الأسد، لم تستطع أن تحمي النظام، وخسرت معظم المعارك، وأن معركة “الله غالب” التي حاصرت دمشق، ومعارك “جيش الفتح” التي حررت إدلب وأريحا، ووصلت إلى تخوم جبال الساحل، كانت ناقوس خطر دق في طهران والضاحية الجنوبية، قبل أن تقرع أجراسه في قصر الأسد على أطراف جبل قاسيون، ومع هذا المأزق، أدركت طهران مدى عجزها عن حماية الأسد وحدها، وأن معادلات توازن القوى في المنطقة التي تتحكم فيها إسرائيل
تسمح لها بإدخال طيرانها إلى القواعد الجوية السورية، بعد أن تم تدمير معظم طيران وحوامات الأسد على أيدي مقاتلي الجيش السوري الحر، بإمكانات بسيطة وبدون سلاح نوعي، لذلك تحتم على إيران اللجوء إلى موسكو، لكن هذا لا يعني (إيرانيًا) تسليم القرار في سورية بكامله إلى قاعدة حميميم، بل عملت إيران على ممارسة التقية العسكرية والسياسية، على غرار التقية الدينية التي يبرع فيها أصحاب عمائم “قم”، بحيث تبدي إيران تجاوبًا وترحيبًا بالوجود الروسي، وتظهر التعاون معه، ولكنها من خلف الجدران تعمل ما تستطيع لتخريب جهود موسكو بالسيطرة على قرار الأسد أو سحبه من الحضن الإيراني.
إذًا، ما يحكم العلاقة بين موسكو وطهران في سورية هو مصالح متبادلة، كلٌّ يكمل الآخر ويغطي سلبياته، بالرغم من الفوارق الكبيرة بالأهداف، فأجندة موسكو في سورية هي أجندة سياسية واقتصادية، بينما الأجندة الإيرانية أجندة طائفية دينية توسعية، لكنهما يلتقيان بنقطة واحدة، أن كليهما يريد من الحرب السورية أن تكون ورقة تفاوضية، ونقطة قوة إيجابية تخدم مفردات التفاوض مع الغرب والولايات المتحدة الأميركية، ولكل طرف على حدة.
سابقًا، قالت موسكو في البيان الختامي لاجتماع القدس، منتصف عام 2019، الذي ضمّ رؤساء مكاتب الأمن القومي في كلٍّ من الولايات المتحدة وروسيا وإسرائيل: “لا نوافق على بند إخراج إيران من سورية، وإذا ما أردتم إخراجها، فعليكم العمل بأنفسكم، لأننا لسنا كلاب صيد عندكم”. ولاحقًا، قدّمت موسكو كل ما تريده إسرائيل من تعاون ومن تجميد لمنظومة (إس 300) التي نقلتها إلى نظام الأسد، لكنها أبقتها من دون تفعيل، وقد تكون موسكو قدّمت جزءًا من بنك معلوماتها الذي تحتفظ به قاعدة “حميميم” عن مواقع التمركز الإيراني ومستودعاتها في سورية، وإيران تعلم ذلك، وقالت في أحد تقاريرها السرية التي تم تسريبها عبر المعارضة الإيرانية: “إن قاسم سليماني أرسل إلى طهران، يقول إن هناك من يمدّ إسرائيل بمعلومات غاية بالدقة عن نقاط تمركزنا في سورية، وإن كل الأعمال التمويهية والأهداف الخداعية التي نقيمها حول منشآتنا لا يتم استهدافها من الطيران الإسرائيلي، مما يؤكد أن لديهم إحداثيات دقيقة، وصورة واضحة عن أهدافنا الحقيقية، وتلك المعلومات لا يملكها إلا قلة قليلة من قيادات الأسد وجنرالات قاعدة حميميم”، في إشارةٍ واضحةٍ إلى خرق أمني عبر إحدى تلك الجهات لصالح إسرائيل.
لكن بالمجمل يمكن القول إن هناك كثيرًا من الخلافات بين أجندات موسكو وطهران في سورية، وإن بعضها وصل إلى مرحلة الصدام أحيانًا، فعندما ضيقت موسكو على ميليشيات إيران في حلب عبر ذراعها اللواء زيد صالح (رئيس اللجنة الامنية في مدينة حلب)، قامت إيران بمحاولة اغتياله في كراجات جبلة، لكن العملية فشلت، وقُتل في المحاولة ابن اللواء زيد (الملازم أول حيدر زيد صالح)، لكن العملية الثانية لم تفشل، وذلك عندما ضغطت موسكو على بشار الأسد لتسليم اللواء أحمد الغضبان ملفّ نبع الفيجة ووادي بردى ومنع ميليشيات إيران و”حزب الله” من دخول المنطقة، إذ قامت إيران، عبر العميد قيس الفروة (ضابط أمن الحرس الجمهوري لدى الأسد)، باغتيال اللواء أحمد، وإحباط المطالب الروسية، والدخول إلى وادي بردى غصبًا عن الروس والأسد، وهذا غيض من فيض لعملياتٍ قام بها الحرس الثوري الإيراني و”حزب الله”، لعرقلة الخطط الروسية في سورية.
بالمقابل، عندما شعرت موسكو بعمق الهيمنة الإيرانية في سورية، وتجنيدها للشباب السوري عبر ميليشيات “الدفاع الوطني” التي تسيطر عليها، أعطت روسيا الأوامر لبشار الأسد بحلّ تلك الميليشيات، وخاصة ميليشيا “صقور الصحراء ومغاوير البحر”، التي أسسها ويقودها الأخوان محمد وأيمن جابر من جبلة، ومن ثم، أنشأت روسيا “الفيلق الخامس” لاحتواء كل المدنيين السوريين المسلحين، وإبعادهم عن الأجندة الإيرانية، وقد جرت كثير من الصدامات التكتيكية بين قاعدة حميميم والحرس الثوري الإيراني، على الجغرافية السورية، كالتي حصلت في مدن الميادين والبوكمال، وتكررت في قاعدة التيفور، ثم في محيط دمشق أخيرًا، عندما فرضت موسكو على “الفرقة الرابعة”، التي تدين بتحالفها لطهران، الانسحاب من حواجزها في بلدة زاكية ودير خبية والغوطة الشرقية، لصالح الأمن العسكري السوري الذي تهيمن عليه قاعدة حميميم، وهناك صدامات أخرى، كان يحتويها الطرفان بذكاء وفق قواعد وخطوط حمراء اتفق الطرفان على عدم خرقها.
اقتصاديًا، أيضًا، كانت هناك صراعات إيرانية روسية مخفية، فالاتفاقيات الخمس التي وقعها رئيس وزراء الأسد عماد خميس، في طهران بداية عام 2017، والتي منحت معظم اقتصاد سورية لإيران، أحبطتها موسكو وجمدتها قبل أن يجف حبرها، وكذلك عقد الفوسفات الذي تحصلت عليه إيران في حقل “خنيفيس” في محيط تدمر، والذي لحق بتلك الاتفاقيات، حتى ميناء اللاذقية الذي أرادت طهران السطو عليه بعقدٍ صوري مع نظام الأسد، على غرار عقود الروس في ميناء طرطوس وقاعدة حميميم، أيضًا عارضته موسكو ومنعت الأسد من توقيعه، وهناك تفاصيل وصراعات كثيرة.
وبالرغم من كل تلك التباينات ما بين أجندات موسكو وطهران في سورية، ومن سعي طهران لاستدامة النزيف السوري ورفضها الحلول السياسية خدمةً لمصالحها ومشاريعها في سورية، بعكس موسكو التي تريد طيّ ملف الاستنزاف في سورية، وعدم الغرق أكثر بالوحل السوري، لأنها لا تريد تكرار مأساة أفغانستان أخرى، بالرغم من ذلك، بقيت العلاقة بين موسكو وطهران علاقة شراكة تقول عنها موسكو إنها تحالفات حرب، وتحالفات الحروب هي تحالفات مؤقتة واضطرارية ولا تدوم، بينما تنظر طهران إلى موسكو على أنها حليفتها وداعمها، وأنها تحتاج إلى الجهود العسكرية الجوية الروسية في السماء السورية، كما تحتاج إلى الجهود الدبلوماسية الروسية في مفاوضاتها مع الغرب في فيينا، وتحتاج أكثر إلى الفيتو الروسي في مجلس الأمن.
بتوصيف دقيق، يمكن القول إن العلاقة بين موسكو وطهران هي علاقة “زواج متعة”، تخدم الطرفَين، تبدأ وتنتهي برضا الطرفين، بعد أن ينال كل طرف مراده؛ فالوجود الإيراني ضروري لموسكو، والوجود الروسي ضروري لطهران، وكلاهما يكمل الآخر ولا يستطيع الاستغناءَ عنه، لكن الخلاف بينهما ينصبّ حول نسب التحاصص؛ حيث إن روسيا تريد أن تتملك كليًا مصير الأسد، وأن تكون لها الكلمة العُليا في أي حلّ سوري يُتوافق عليه مع المجتمع الدولي، ولو كان الثمن الإطاحة برأس الأسد، ولا تعارض وجود إيران إلى جانبها في سورية، لكن بعد قوننة هذا الوجود، وأن يبقى تحت تصرفها ويسير وفق أوامرها، على حين أن طهران تطمح إلى أن تكون سورية المحافظة 35 في خريطة النفوذ الإيراني بالمنطقة، ولن تفرّط بحليفها الأسد، لأنه الضمان لاستمرار مشروعها، فسورية وبشار الأسد -بالنسبة إلى طهران- هما واسطة العقد لمشروع الهلال الشيعي الذي يربط طهران ببغداد ببيروت والمتوسط، ومع ذلك لا تريد طهران الاصطدام مع موسكو إلا في لحظة الطلاق النهائي، عندما تنعدم كل الخيارات.
أحمد رحال _ حرمون للدراسات