شاءت المأساة السورية أن تخلق اصطفافات قاسية في المجتمع فتم تقسيمه وفق ألوان حادة وواضحة وأخرى بينها تصف إلى حد ما المواقف تجاه ما يحصل في البلاد من الطلقة الأولى وحتى اللحظة التي يبدو فيها الخراب مسيطراً اجتماعياً واقتصادياً وأخلاقياً.
لم يكن سهلاً على من كانوا يعتقدون أنهم بمنأى عما يحصل بجوارهم من قتل واعتقال وعسف أن ينحوا اتجاه موقف واضح، وأن يصرحوا جهاراً بما يؤمنون به، وهذه ليست حالة الناس العاديين الذين انخرطوا سريعاً في الاصطفاف إما مع النظام أو ضده بل كانت أكثر وضوحاً لدى الشرائح التي تصنع الفارق في حسم المعركة.
في محادثاته الطويلة من دمشق مع صديق له هرب إلى تركيا كان يصرّ خالد على السؤال التالي: هل من فرصة عمل حقيقية.. وما هو الراتب الذي يدفعونه لكم؟.. وأما الأهم فهو كم الأنا المتضخمة المكررة في الحديث الأسبوعي: أنت تعرف وضعي هنا لا بأس به حتى اللحظة أريد أن أكون في مكان جيد لذلك حدثهم عن خبرتي ومدى الاستفادة مني.
مع بداية الهروب الكبير في سوريا خريف 2015 زادت حمى الباحثين عن مأوى لرؤوسهم التي بقيت في السنوات الأخيرة محمية بسبب توازن الصراع وانعدام فكرة الحسم لكن ضراوة المعارك دفعت مئات الألوف للوصول إلى الأمان المنشود، ولذلك بدأ هؤلاء في تغيير لهجة الاشتراط في قبول المغادرة فبدأ حديث خالد مع صديقه مهادناً: أريد حلاً سريعاً فالأوضاع تسير نحو الأسوأ، ومن الممكن الاتفاق على راتب شهري يؤمن حياة كريمة يعني إيجار منزل جيد ودراسة الأولاد.
بالمقابل كان على عتاة المؤيدين للنظام أن يزيدوا من شراسة مواقفهم، وأن يطمئنوا أنفسهم وجمهورهم بأن القادم أفضل، وأن المعركة حسمت، وأن ثمار النصر قد نضجت وحان قطافها، وضريبة الصبر ستعود عليهم بالكثير من الرخاء فكل أموال الهاربين والخونة من حقهم، وكذلك سيفتح العالم الأبواب لعودة السفارات وطرق التجارة إلى ما كانت عليه قبل 2011 العام المشؤوم لكل المنتظرين مع النظام.
من بين هؤلاء من أخفوا أصواتهم الحقيقية بخوف آخر ليس على منجزاتهم الشخصية فحسب بل من أجل تاريخهم العائلي والمذهبي الذي كان أعلى من انتمائهم الوطني والأخلاقي، وهؤلاء تراوحت مواقفهم بين السخط على حياة الفقر والقتل الذي لم توقفه انتصارات الحلفاء، وبين ما يتنازعهم من خوف البقاء تحت بسطار الاستبداد، ولذلك لم يتوقفوا عن التواصل مع أصدقاء اتخذوا قرارات حاسمة بالوقوف في وجه النظام.. ولو بموافقة خجولة على رأي فيسبوكي، وبالتالي حافظوا ولو بالحد الأدنى على رماديتهم الوسطى بين لونين صارخين.
ولكن وسط كل هذه الألوان الصافية ثمة رماديون يتحركون للحصول على مناصب وأموال وانتفاعات شخصية سريعة، ولهذا سينتقل المعارضون الذين صاروا في الضوء بين تيارات مختلفة، وولاة مال مختلفين، وسيركبون قوارب النجاة والغرق بين فترة وأخرى على حساب الصراع المؤجل مع النظام، ومن أجل هذا أخفقوا في بناء مشروع مغاير وبديل لأنهم فقط محكومون بالبقاء على قيد الحياة والتمويل.
أما هناك فرماديون آخرون يتلونون وفق مصالح الحلفاء بين الأحمر الروسي والأسود الإيراني، وهذا ما ستجده على الأرض في حجم المنتمين إلى الميليشيات المذهبية، وكذلك لمحبي اللغة الروسية وفيالقها المستحدثة حتى في مناطق المصالحات الكبرى فثمة من يسعى للبقاء في الوطن تحت راية غير وطنية.. راية من آلاف الرايات المنتشرة في بلد صغير كسوريا بالكاد تمت صناعة رايته الجامعة لكل هذا الفسيفساء المتناحر.
اليوم.. وبعد أن فتك الجوع وعدم الأمان بأحلام الجميع هل ثمة راية تجمع كل هؤلاء، وهل ثمة مطارات تتسع لهذا الهروب الكبير؟
عبد الرزاق دياب _ تلفزيون سوريا