قد يكون من المنطقي بالنسبة للكثيرين، الربط بين تمديد آلية تمرير المساعدات الإنسانية عبر الحدود إلى سوريا -دون تصريح من نظام الأسد، وبضوء أخضر روسي- وبين ملفات ساخنة يشتبك فيها الأمريكيون والروس – سياسياً- على تخوم أوكرانيا، وفي كازاخستان. وقد تزداد منطقية هذا الربط، جراء تزامن تأكيد الأمم المتحدة تمديد تمرير المساعدات ستة أشهر أخرى -دون تصويت جديد في مجلس الأمن- مع انتهاء جولة من المفاوضات الأمريكية – الروسية في جنيف، بخصوص الأزمة على تخوم أوكرانيا.
ومع التذكير بأنَّ روسيا لوّحت جدياً، خلال شهر كانون الأول/ديسمبر الفائت، بعرقلة التمديد في موعده المحدد في 10 كانون الثاني/يناير الجاري، يبدو أنَّ للتراجع الروسي عن هذه العرقلة، دلالاتٍ، من المغري – ربما- ربطها بأثر الملفات الدولية المشار إليها، وحاجة موسكو الملحة لعدم تعقيد التوتر الروسي- الأمريكي، المُعقّد أساساً، خاصة بعد الانخراط العسكري الروسي في كازاخستان، والمعارضة الأمريكية العلنية لذلك الانخراط.
لكنَّ شيئاً من التدقيق، ومراجعة تطورات التفاعل الأمريكي- الروسي في الملف السوري، منذ ربيع العام الفائت، قد يجعلنا نقلّل من أثر الملفات الدولية على التطور الأخير. بل قد تحيلنا تلك المراجعة إلى نتيجة مخالِفة للقراءة المتسرعة التي تُسقط أثر التطورات الدولية على الشأن السوري، بشكل أوتوماتيكي، لنجد بأنَّ التمديد الهادئ لآلية المساعدات الدولية قبل يومين، كان استمراراً لمسار من التفاعل الروسي- الأمريكي، بدأ تحديداً، منذ نهاية آذار/ مارس المنصرم. وقد منحت واشنطن دفعةً جديدة، لهذا المسار، في تشرين الثاني/نوفمبر الفائت، حينما أعفت وزارة الخزانة الأمريكية، المقاولين والمتعاملين مع هيئات الأمم المتحدة من عقوبات قانون “قيصر”، أثناء تنفيذهم مشاريع في سوريا. وشملت الإعفاءات، تبادل الأموال وتلقيها. وسمحت للأمريكيين، بالمشاركة في ذلك. واستخدمت الخزانة الأمريكية في تبريرها للإعفاءات الأخيرة، مصطلح “التعافي المبكر”، بوصفه هدفاً تدعمه في سوريا، مما يؤشر إلى الفلسفة التي ترتكز إليها السياسة الأمريكية الحالية حيال الملف السوري، والتي مفادها؛ تخفيض التوتر والدفع نحو الاستقرار التدريجي.
الإعفاءات الأمريكية من العقوبات على نظام الأسد، المشار إليها أعلاه، كانت استمراراً لسلسلة من تخفيف العقوبات، شملت أسماء مقرّبة من نظام الأسد. دون أن ننسى الضوء الأخضر الأمريكي، المتعلق بإعفاء خط الغاز المصري المرتقب مروره عبر الأراضي السورية إلى لبنان، من تبعات قانون “قيصر”. ورغم أنَّ تخفيف العقوبات، بقي دون المستويات النوعية التي كان يأملها الروس ونظام الأسد، إلا أنه يبدو كمسارٍ يتطور بشكلٍ مطرد. فالأمريكيون، منذ نهاية أيلول/سبتمبر الفائت، يناقشون عبر مؤسساتهم، تخفيف عقوبات “قيصر” على نظام الأسد، بعد محادثات روسية – أمريكية بخصوص الملف السوري، قادها حينها، المسؤول عن ملف الشرق الأوسط، بريت ماكغورك، من الجانب الأمريكي. هذا المسار، لم يبدأ فقط في أيلول/سبتمبر، أو حتى في حزيران/يونيو، حينما أزالت الخزانة الأمريكية شركتين عائدتين لـِ سامر فوز، من قائمة عقوباتها. بل بدأ منذ وصول إدارة جو بايدن إلى الحكم. فهذه الإدارة، ومنذ عامٍ وحتى اليوم، لم تفرض حزم عقوبات جديدة ضدَّ الأسد بموجب قانون “قيصر”. ورغم أنها فرضت عقوبات على سجون ومسؤولين أمنيين تابعين للنظام، في نهاية تموز/يوليو الفائت، إلا أنَّها عقوبات جاءت خارج سياق قانون “قيصر”. وتحمل بعداً سياسياً، أكثر منه، اقتصادياً.
فواشنطن، قررت اعتماد ملف المساعدات الإنسانية عبر الحدود، بوصفه اختباراً لإمكانية عقد تفاهمات أوسع مع موسكو في الملف السوري. وتدرك الأخيرة تحديداً، حاجتها الملحة لهكذا تفاهمات، خاصة على صعيد تخفيف العقوبات الاقتصادية عن النظام الحليف لها في دمشق. وقد تجاوبت موسكو مع الهدف الأمريكي المتواضع، المتعلق بإبقاء شريان المساعدات الدولية مفتوحاً إلى شمال غرب سوريا الخارج عن سيطرة النظام، بوصفه خطوة تقابل خطوات أمريكية تتمثل بتخفيف العقوبات أو عدم فرض حزم جديدة، نوعية، منها.
هذا المسار، يواصل تطوره الهادئ، لكن المطرد. فالتلويح الروسي العلني، الذي أطلقه مبعوث الرئيس الروسي الخاص إلى سوريا ألكسندر لافرنتييف، نهاية شهر كانون الأول/ديسمبر، بعرقلة تمديد تمرير المساعدات، سرعان ما اختفى لصالح قبول روسيا بالقراءة الغربية للقرار الدولي المتفق عليه في تموز/يوليو الفائت، والتي تفهم تمديد تمرير المساعدات، بوصفه أمراً تلقائياً، لا يتطلب تصويتاً جديداً في مجلس الأمن، ويستند إلى تقرير يصدر عن أمين عام الأمم المتحدة، يقيّم أهمية هذه الآلية الإغاثية الدولية. وهو ما حدث فعلاً. إذ قال تقرير سرّي -سربته وكالات أنباء- صدر عن أنطونيو غوتيرش، موجهاً لمجلس الأمن، في كانون الأول/ديسمبر الفائت: إنَّ المساعدات الإنسانية عبر الحدود لشمال غربي سوريا من دون موافقة النظام السوري ما زالت ضرورية. ذلك التقرير وفق القراءة الغربية للقرار الدولي الخاص بتمديد آلية المساعدات، في تموز/يوليو الفائت، كان كافياً لتمديد الآلية ستة أشهر أخرى، تنتهي في 10 تموز/يوليو القادم. وهو ما قبلت به روسيا، لاحقاً، بعد شيء من التمنّع، الذي يتضح الآن أنه كان مجرد مناورة دبلوماسية غير جدّية.
إذ لا مصلحة روسيّة في إجهاض مسار التفاهم الروسي – الأمريكي، بخصوص الملف السوري. والذي، رغم أنه يتطور ببطء شديد، يبدو محبطاً لموسكو التي تتعجل تخفيف الضغوط الاقتصادية عن النظام الحليف لها في دمشق، إلا أنه يبقى أفضل من سيناريوهات عدائية أمريكية بديلة، من قبيل؛ زيادة العقوبات، أو الضغط على ميليشيا “قوات سورية الديمقراطية” في “شرق الفرات”، لتقليص التعاون مع القوات الروسية، هناك. أو حتى وقف تصدير النفط من تلك المنطقة، إلى مناطق سيطرة النظام. أو ربما أبعد من ذلك، زيادة الضغط على دول عربية لوقف مسار التطبيع التدريجي مع النظام. والأبعد من كل ما سبق، يبدو أن للروس مصلحة مباشرة في استمرار آلية المساعدات الدولية عبر الحدود. ورغم إلحاحهم على تعزيز تمريرها عبر “الخطوط” –جبهات التماس بين مناطق سيطرة النظام والمناطق الخارجة عن سيطرته- إلا أنهم ليسوا في وارد دفع الفرقاء الغربيين إلى أحد خيارين دراماتيكيين: إمَّا حصر تمرير المساعدات بمناطق سيطرة النظام وعبر جبهاته مع المناوئين له في شمال غرب سوريا، أو وقف المساعدات الدولية تماماً. فالخيار الأول، لن تقبل به الدول الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، مما سيؤدي إلى الخيار الثاني، والذي يعني خسارة نظام الأسد لمصدر مساعدة، هو في حاجة ملحة لها، ناهيك عن التبعات التي ستتلو ذلك، كما سبق وأشرنا، من تصعيد الغرب، وخاصة واشنطن، للعقوبات ضد الأسد.
القراءة السابقة، أشارت إليها مجلة “فورين بوليسي”، في تقرير مُلفِت لها، نشرته في مطلع تموز/يوليو الفائت، حينما كانت روسيا تبتز المجتمع الغربي باستخدام الفيتو ضد قرار تمديد تمرير المساعدات الدولية عبر الحدود. وذهبت المجلة إلى أبعد مما سبق، مستندة إلى افتراضات مسؤولين أمريكيين، مفادها أن موسكو لا تريد في الواقع إغلاق الحدود أمام المساعدات، خشية أن يؤدي ذلك إلى انهيار الاستقرار الهش في إدلب. فروسيا وحليفها الأسد، وفق المجلة الأمريكية، لا يريدان التعامل مع المنشقين من سكان المحافظة البالغ عددهم 3.5 ملايين نسمة.
وقد يكون من المرجح أن يستمر هذا المسار الروسي – الأمريكي، من تطوير التفاهمات المحدودة في الشأن السوري، وفق استراتيجية “خطوة مقابل خطوة”، حتى حزيرن/يونيو القادم، على الأقل. حينها، ستبدأ جولة جديدة من الابتزاز الروسي للمجتمع الدولي، بخصوص تمديد تمرير المساعدات عبر الحدود.
لا تنفي الخلاصة التي انتهينا إليها أعلاه، وجود آثار لملفات خارجية على الملف السوري. لكنها تبقى محدودة في المدى المنظور. خاصة مع عدم ترجيح انفجار التوتر الروسي- الغربي بخصوص الملف الأوكراني، ولملمة المشهد المضطرب في كازاخستان، كما توحي المؤشرات الأولية حتى الآن. كما لا ينفي ذلك، أن مفاجآت من قبيل حصول تصعيد نوعي في التوتر الروسي – الغربي في إحدى الملفات الدولية، أوكرانيا تحديداً، سينعكس سريعاً وبشكل كبير على المشهد السوري. لكن يبقى ذلك السيناريو مستبعداً في ضوء الرغبة الجلية في الوصول إلى تفاهمات بين صنّاع القرار، في كل من موسكو وواشنطن.
إياد الجعفري _ الطريق