دروس أفريقية في الديمقراطية برسم الطغاة العرب

سيريا برس - أنباء سوريا 

«أفريقيا ليست بحاجة إلى رجال أقوياء، بل إلى مؤسسات قوية» هذا ما جاء في خطاب للرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما في أكرا، عاصمة جمهورية غانا، أثناء زيارة رسمية يوم 11 يوليو 2009.

هذا المبدأ تأكد هذا الأسبوع في هذا البلد، أكثر البلدان الأفريقية استقراراً، ونحن نشاهد البلاد تدخل الأيام الأخيرة للانتخابات التشريعية والرئاسية. فقد تعهد المرشحان، الرئيس الحالي نانا أكوفو- آدو والمنافس له الرئيس السابق جون دراماني مهاما، خطيا يوم 4 ديسمبر أن يحترما خيار الشعب ويلتزما بنتائج الانتخابات.

نانا الرئيس الحالي ينتمي لحزب الشعب الوطني، الذي يملك الأغلبية البرلمانية، وجون مهاما ينتمي لحزب المؤتمر الوطني الديمقراطي. لقد فاز في الانتخابات الرئيس الحالي نانا بنسبة 51.48% وحصل المعارض جون على 47.86%. وقد سارت العملية الانتخابية بهدوء وسلام وشفافية، وروح تنافسية سليمة، بدون عنف أو تحريض على العنف، أو تزوير أو اتهامات بالتزوير.

هذا نموذج واحد للمسار الديمقراطي للعديد من الدول الافريقية، التي اختارت الاستقرار والتنمية الرشيدة وسيادة القانون وتبادل السلطة، بعيدا عن حكم العسكر ومسلسل الانقلابات الدموية، وانتشار حكم العائلات، أو القبائل كما في بلاد العرب. القارة الأفريقية الغنية بمواردها الطبيعية، كانت وما زالت، محط أطماع الدول الاستعمارية. لقد تركت تلك الدول جراحا وشقوقا وخلافات عرقية وحدودية، من الصعب أن تندمل مع الزمن. وأينما وجدت المشاكل والصراعات والحروب والمذابح والنزوح ففتش عن الاستعمار، لتجد أنه السبب في معظم تلك العلل المزمنة التي خلفها قبل الرحيل ليضمن السيطرة عليها بعد الرحيل.

لقد توافقت الدول الأفريقية على مجموعة مواثيق ومعاهدات تحت مظلة الاتحاد الافريقي، الفاعل على تنسيق المواقف وحل مشاكل أفريقيا قبل أن تتفاقم وتصبح مجالا للتدخلات الدولية. وقد شهدنا في المدة الأخيرة أزمتين رفضت الدول الأفريقية تدويلهما. أزمة سد النهضة بين إثيوبيا ومصر والسودان، وأزمة منطقة تغراي. حاولت مصر تدويل أزمة السد وفشلت، وكل ما أنجزت عقد جلسة مفتوحة لمجلس الأمن للاستماع إلى وجهات النظر المختلفة فقط، وظلت الوساطة الأفريقية هي الوحيدة المقبولة. كما أصرت الدول الأفريقية الثلاث الأعضاء في مجلس الأمن حاليا وهي، جنوب أفريقيا والنيجر وتونس، على رفض محاولات عقد جلسة لمجلس الأمن حول أزمة تغراي، وبدل ذلك دعي الممثل الدائم لإثيوبيا لإطلاع المجلس على آخر التطورات في جلسة مغلقة. لقد كلف الاتحاد ثلاثة رؤساء سابقين للتدخل، لاحتواء الأزمة وهم رئيس جنوب أفريقيا الأسبق، ورئيس موزامبيق السابق، ورئيسة ليبيريا السابقة، وما فتئوا يعملون تحت إشراف رئيس الاتحاد، ورئيس جنوب افريقيا، سيريل رمافوزا، لغاية وقف القتال واحتواء الأزمة وإيصال المساعدات الإنسانية.


من الواضح أن هناك تحولا للديمقراطية في معظم دول القارة الأفريقية جنوب الصحراء بعد نهاية الحرب الباردة 1991، وأن نقاط الاحتكاك والنزاع العديدة بدأت تتقلص في الكونغو ودارفور وجنوب السودان، وبورندي وجمهورية أفريقيا الوسطى ومالي وإريتريا وإثيوبيا وساحل العاج والكاميرون. الاتحاد الافريقي وبالتعاون مع الأمم المتحدة، يكاد يطوي كثيرا من سنوات الصراع في هذه الدول، ويخرجها من دوائر المواجهات المباشرة والعنيفة، على أمل إيصالها لمرحلة الاستقرار. لكنني هنا سأركز على نماذج ساطعة من الدول التي تشهد استقرارا ديمقراطيا مثل غانا التي بدأت الحديث عنها.

النموذج السنغالي

يحق للأفارقة أولاً والمسلمين ثانياً، أن يفتخروا بالنموذج السنغالي الفذ، في الاستقرار والخيار الديمقراطي منذ الاستقلال عام 1960. وقد اختار الشعب السنغالي، الذي ينتمي بين 85 إلى 90% من شعبه للدين الإسلامي، رئيساً مسيحياً هو ليوبولد سنغور، الشاعر والمثقف والكاتب الذي نظم النشيد الوطني للبلاد. لقد ظل الشعب يعيد انتخابه لغاية 1980 إلى أن طالب سنغور نفسه الشعب بإعفائه للتفرغ للكتابة والشعر، ورشح من بعده نائبه المسلم عبدو ضيوف المسلم. وبقيت الديمقراطية مستقرة في البلاد إلى اليوم. وعندما حاول الرئيس الثالث عبد الله واد (2000-2012) تغيير الدستور للترشح لدورة ثالثة، قوبل الاقتراح بالرفض، وخرجت مظاهرات تحتج على الأمر وانتهى الأمر عند هذا الحد. لقد تم تحديد فترات الرئاسة بدورتين كل دورة سبع سنوات. فقد انتخب ماكي سال، الرئيس الحالي، في أبريل 2012 وأعيد انتخابه بسهولة في أبريل 2019. وقد أتيح لي أن أقوم بجولة في السنغال، حيث التقيت بالعديد من المسؤولين، بمن فيهم الرئيس الحالي لأتعرف أكثر على التجربة الديمقراطية الفذة، التي تثبت أن لا تعارض بين الإسلام والديمقراطية إذا فهم الإسلام بروحه الصحيحة، بعيدا عن وعاظ سلاطين النفط وفتاوى الدواعش. لقد وجدت في السنغال شعبا بسيطا وطيبا ومتسامحا بعيدا كل البعد عن العنف أو التزمت أو التدخل في شؤون الناس. الناس فقراء لكنهم يعتزون بكرامتهم والغنى الفاحش، قد يكون نادرا، لكن هناك طبقة وسطى من التكنوقراط والمثقفين والخبراء والرياضيين، ما يدعو إلى التفاؤل بمستقبل كبير للبلاد، خاصة أن كثيرا من السنغاليين المهاجرين يعودون للبلاد للاستثمار، وبناء مصالح تجارية والاستقرار في بلدهم الناهض.

نموذج بوتسوانا

ومن بين الدول التي حطت ركابي بها دولة بوتسوانا المحاذية لجنوب أفريقيا ذات عدد السكان القليل جدا قياسا لمساحتها الضخمة. وأغرب ما شاهدته أن البلاد قطعت أو تكاد دابر الفساد. وكدت أُحجز في مطار خابروني العاصمة، لأنني لم أحصل على تأشيرة، ظنا مني أن جواز سفر الأمم المتحدة لا يحتاج إلى تأشيرة، كما فعل بقية أعضاء الوفد، حيث جئنا إليها من جوهانسبيرغ. وبقيت في المطار إلى أن جاء مدير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في البلاد، ووقع على تعهد أن أغادر البلاد في الموعد المحدد في التذكرة. وقد علمت من المسؤولين الأممين هناك أن هناك غرامات شديدة على كل أنواع الفساد. لقد كانت بوتسوانا أفقر دولة افريقية عند الاستقلال عام 1966، حيث كان دخل الفرد لا يتجاوز 70 دولارا في السنة، ليصل اليوم إلى أكثر من 19000 دولار. وتسجل بوتسوانا أعلى معدلات نمو في القارة الأفريقية بكاملها، بل تصنف أنها من أفضل الاقتصاديات النامية في العالم، وأفضل دولة في كل أفريقيا من حيث مؤشرات الفساد. عقدت بوتسوانا في 30 سبتمبر 1966 أول انتخابات تشريعية ورئاسية، ومنذ ذلك اليوم لم تتعطل العملية الديمقراطية على الإطلاق. وقد عقدت آخر انتخابات ديمقراطية للمرة الحادية عشرة في أكتوبر 2019. لقد احتلت بوتسوانا المرتبة 30 على سلم ديمقراطيات العالم، ما يجعلها تقارب مستوى أعرق الديمقراطيات في العالم. وترفع البلاد شعارا يلتزم به كل من يدخل معترك السياسة «لا أحد فوق القانون».

نموذج جنوب أفريقيا

مع أن الديمقراطية في جنوب أفريقيا هي الأحدث في القارة الأفريقية، حيث شهدت البلاد أول انتخابات حرة لكل أفراد الشعب عام 1994 بعد سنوات نظام الفصل العنصري البغيض. لكن تجربة جنوب أفريقيا لا يضاهيها تجربة. فقد ارتكبت الأقلية البيضاء من الجرائم والمذابح والاضطهاد، ما لا تستطيع الكتب أن تستوعبه. لقد تكررت زيارتي لهذه البلاد العظيمة، وشاهدت بأم عيني الفرق بين «مدن الصفيح» أو المعازل التي كان ينام فيها السود، على تخوم المدن الصناعية، والحواضر والفلل الراقية التي يسكنها البيض. لقد ارتكب البيض من الفظائع ما يجعلك تتعجب كيف استطاع القائد الفذ نيلسون مانديلا أن يستوعب جماهير السود ويهدئ من روعهم، ويلغي فكرة الانتقام مرة وإلى الأبد، ويوحد البلاد، ويحافظ على المكون الأبيض من البلاد الذي يسيطر على الاقتصاد.

كان نموذج زيمبابوي ماثلاً أمام مانديلا عندما أمم الرئيس موغابي أملاك البيض في زيمبابوي، فهربوا مع رؤوس أموالهم، حيث ظلت البلاد بعدها تعاني من الفقر والانهيار الاقتصادي، تحت نظام سلطوي عضوض ظل في السلطة على طريقة أصدقائه العرب نحو 37 سنة. في جنوب أفريقيا ظل البيض في البلاد يحميهم القانون، ويشاركون في الانتخابات. لكنهم ظلوا كذلك يتحكمون في الاقتصاد بشكل أساسي، بينما استوعبت الدولة ملايين السود في الإدارات والبنوك والجيش والوظائف الحكومية. لقد ضرب مانديلا نموذجا مشرقا آخر وهو عدم الترشح لدورة ثانية بعد انتهاء ولايته الأولى عام 1999 تفرغ بعدها لخدمة بلاده والقارة الأفريقية وجهود السلام في العالم. ومنذ انتخابات 1994 وحتى اليوم والبلاد تمارس العملية الديمقراطية، بدون عثرات أساسية حيث شهدت البلاد في 26 سنة خمسة رؤساء.


نلاحظ أن الازدهار الاقتصادي مرتبط أصلاً بالاستقرار، والاستقرار بحاجة إلى نظام يلتزم به الجميع، ويقوم على التعددية والانتخابات الحرة وتبادل السلطة وسيادة القانون ومحاربة الفساد. فهل تأخذ أنظمة الطغيان في العالم العربي الدروس من قارة كثيراً ما كانوا ينظرون إليها بنوع من الفوقية.

عبد الحميد صيام - القدس العربي - محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بنيوجرسي

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

آخر الأخبار

سوريّات في فخ “تطبيقات البث المباشر”..بين دعارة إلكترونية واتجار بالبشر

يستقصي هذا التحقيق تفشي “تطبيقات البث المباشر” داخل سوريا، ووقوع العديد من الفتيات في فخ تلك التطبيقات، ليجدن أنفسهن يمارسن شكلاً من أشكال “الدعارة...

ابتزاز واغتصابٌ وتعذيب.. سوريون محاصرون في مراكز الاحتجاز اللّيبية

يستقصي هذا التحقيق أحوال المحتجزين السوريين في ليبيا خلافاً للقانون الدولي، وانتهاكات حقوق الإنسان داخل مراكز احتجاز المهاجرين، وخاصة تلك التي تتبع “جهاز دعم...

كعكةُ “ماروتا سيتي” بمليارات الدولارات

آلاف الأسر تتسوّل حقّها بـ"السكن البديل" على أبواب "محافظة دمشق" يستقصي التحقيق أحوال سكان منطقة المزة – بساتين الرازي في دمشق، بعد تهجيرهم من بيوتهم...

معاناة اللاجئات السوريات المصابات بمرض السرطان في تركيا

تصطدم مريضات السرطان من اللاجئات السوريات في تركيا بحواجز تمنعهن من تلقي العلاج على الوجه الأمثل، بداية من أوضاعهن الاقتصادية الصعبة والاختلاف في أحقية...

خدمات المساعدة القانونية المجانية للاجئين السوريين في تركيا

غصون أبوالذهب _ syria press_ أنباء سوريا الجهل بالحقوق القانونية للاجئين السوريين في تركيا يقف حجر عثرة أمام ممارسة حقهم بالوصول إلى العدالة، ويمنعهم...
Exit mobile version