عملت الثورة المضادة على قطع الذراع القوية للثورة السورية المتمثلة بالجيش السوري الحر، ونجحت إلى حد بعيد في أغلب المناطق، وكما هو معروف، قُسمت المناطق المحررة إلى أجزاء سُمّيت “مناطق خفض التصعيد”، حسب مقررات أستانا التي ساهمت، مع عوامل أخرى ذاتية تتعلق بقيادة الجيش الحر، في تفتيت الجيش الحر؛ وبالتالي سُلّمت المناطق المحررة على طبق من فضة للأسد، برعاية من ضامني تلك الاتفاقيات، وبمشاركة ومباركة من الذين اغتصبوا مؤسسات الثورة والذين أعطوا لهذه المؤتمرات شرعية، من حيث اعتراف الثورة بنظام الأسد كسلطة حاكمة، واعتراف من انتفض عليه بأنهم معارضة، وهذا هو الفخ الذي نجح في نصبه الروس والإيرانيون وشركاؤهم في أستانا للثورة، وحققوا من خلاله مكاسب لم يحلم بها الأسد وعصاباته ومشغلوهم، ولعلّ نجاحهم في دمشق وريفها وحمص وريفها وحلب وريفها، وحصر فصائل الثورة في منطقة ضيقة في الشمال السوري، سمح بالسيطرة على كلّ الفصائل العاملة تحت مظلة الثورة حتى الجهادي منها، وبذلك استطاع الضامن التحكم في قرار الثورة العسكري، والسياسي، وهذا ما ظهر جليًا أخيرًا في جبل الزاوية، فالاعتداء على القرى والبلدات في الجبل، وارتكاب المجازر فيها، ما زال مُسْتَمِرًّا تحت أنظار أقطاب أستانا من دون اتخاذ أيّ إجراء يمكن أن يوقف تلك الجرائم، حتى من الفصائل المحسوبة على الثورة.
وهذا الأمر أصبح واضحًا للعيان، بل إنه يتكرر قبيل تسليم أي منطقة من المناطق المحررة، كل ما حدث ويحدث في الشمال فشل في تطبيقه الأساتانيون وحلفاؤهم في الجنوب السوري، وعلى الرغم من تسليم بعض مناطق درعا وإجراء مصالحات لكثير من عناصر الجيش الحر، فإن غالبية الشباب المقاتل في صفوف الفصائل التي ساهمت في تسليم مناطق درعا عمدوا إلى الانكفاء في منازلهم، ورفضوا إجراء المصالحات مع القوات الروسية أو قوات الأسد، ونتيجة الخذلان الذي لمسه هؤلاء الشبان من قادة فصائلهم؛ سارعوا منذ البداية إلى تجميع أنفسهم في مجموعات صغيرة جدًّا، قاموا من خلالها -على مدى ثلاث سنوات- بتنفيذ كثير من العمليات الفدائية، تحت غطاء المقاومة الشعبية، ضد عصابات الأسد والمحتل الروسي والإيراني، ومنعوا هؤلاء من تطبيق مخططاتهم بالسيطرة على كامل درعا، مَدِينَة وريفًا، وعلى الرغم من توفر الإمكانيات اللوجستية والقوة العسكرية والأمنية للأسد وحلفائه؛ لم يستطع هؤلاء احتواء شباب ورجال درعا الذين أرّقوا مضاجع المحتلين، وساهموا في حماية قراهم وبلداتهم من بطش عصابات الأسد والميليشيات الإيرانية، ويمكن أن نجزم بأن أحد أهم الأسباب الموضوعية، لنجاح ثوار درعا في استمرارهم في المقاومة، هو استقلالية قرارهم؛ فالنظام الأردني يسيطر على قادة الفصائل الذين نفذوا ما هو مطلوب منهم، وسلّموا المناطق المحررة، وساهموا في تفتيت الجبهات وتسهيل الاختراقات، ليتمكن الأسد وحلفاؤه من التوغل في مناطق الجنوب المحررة، لكن هؤلاء القادة ليس لهم أي سيطرة على أغلب رجال درعا وثوارها، خاصة بعد اتضاح خيانتهم للثورة وللشعب الثائر، فضلًا عن أسباب أخرى ساهمت في بقاء روح الثورة واستمرارية المقاومة حتى الآن، في تلك المنطقة، ومن هذه الأسباب الصبغة العشائرية لأهلنا في درعا، وتكتل أبناء كل قرية حتى مدينة درعا البلد مع بعضهم البعض، وفشل المحتل الإيراني في كسب ودّ أبناء درعا، على مختلف مشاربهم، من خلال الجمعيات الخيرية والإغراءات المادية، وفشل الدول -على مختلف توجهاتها- في السيطرة على هؤلاء الأبطال الذين يبدوا أنهم وصلوا الليل بالنهار لتحقيق هدفهم الأسمى المتمثل في تحقيق الجاهزية القتالية العالية، التي سيطروا من خلالها على معظم قرى وبلدات درعا، وبوقت قياسي تعجز عنه جيوش مدربة، ولا شك في أن ما ساهم كثيرًا في تنفيذ مهمتهم هو هشاشة جيش الأسد في تلك المنطقة، لعدم وجود عناصر وضباط بأعداد كافية تغطي كامل قرى وبلدات حوران، إضافة إلى الروح المعنوية المنهارة لعناصر تلك الحواجز، نتيجة تراكم الهجمات عليهم طوال الثلاث سنوات الماضية، ونتيجة تشتت انتماءاتهم بين المحتل الروسي وبين المحتل الإيراني، ونتيجة خدمتهم الطويلة في جيش متهالك ينخره الفساد والمحسوبيات منذ عقود.
يمكن القول إنّ تطور الأوضاع العسكرية في درعا لم يكن مفاجئًا، لمن قرأ المشهد قراءة “جيوعسكرية” متأنية، من حيث طبيعة توضع القوى والوسائط لكلا الطرفين، التي ساهمت في نجاح العمليات العسكرية في الزمان والمكان، في ظروف موضوعية مثالية، فضلًا عن التحضير النفسي وامتلاك إرادة قتال صلبة كالفولاذ للقوى البشرية التي يتمتع بها رجال المقاومة الشعبية التي وفرت بناء استراتيجية، حققت من خلالها عودة الجيش الحر بهذه القوة إلى مكانه الطبيعي، وهذا هو الفرق الشاسع بين فصائل الشمال والشباب القاطنين في مخيماته، وبين فصائل الجنوب والرجال الذين لم يستطع أحد السيطرة عليهم، بل استمروا في تحضير أنفسهم لمثل هذه الساعة التي يحلم بها شعبنا على مساحة الوطن السوري، ليرفع عن كاهله أعباء وجرائم سلطات الأمر الواقع التي تعمل لأجندات مشغليها، ضاربة عرض الحائط بمصالح الثورة والمصلحة الوطنية للشعب السوري ولوطن، ساهموا جميعًا في تمزيقه وتفتيته، للحفاظ على كراسيهم المغموسة بدماء من خرج يطالب بقليل من الحرية والديمقراطية، فسلطوا عليه وحوشًا مسعورة لم يكن يومًا همّهم سورية ولا شعبها، وجلّ اهتمامهم منصب زائل هنا وحفنة من الدولارات هناك، لكن هذا لن يستمر طويلًا، فما حدث في حوران أعتقد أنه مقدمة لانتفاضة جديدة وثورة على الثورة، يمكن من خلالها تحقيق جزء من طموحات الشعب السوري وتطلعاته المشروعة، بانتظار تحرّك أهلنا في الشمال ونفض غبار العبودية والعار عن فصائل، بات همّها إرضاء الضامن وتنفيذ مخططاته، من خلال إرسال الشباب السوري إلى ليبيا، ومن ثم أذربيجان، ومن المتوقع إرسالهم إلى أفغانستان، ليكونوا وقودًا لمحرقة معدّة سلفًا، للتخلص من كلّ من خرج على الأسد وعصاباته، لبتر الذراع القوية للثورة السورية إلى الأبد.في ظل هذا المشهد، وكل هذه الإيجابية في سير الأحداث، لا بدّ لنا من تدارس الأمر من منظار آخر، يرى أنه لا بد من حساب ردات أفعال أعداء الشعب السوري وثورته والقائمين على الثورة المضادة.
فهل سيصمت هؤلاء، بعد أن حققوا كثيرًا من الإنجازات عبر السنوات الخمس الماضية؟ وهل سنشاهد حصارًا جديدًا وحرب استنزاف، كما حصل سابقًا؟ وهل سيُسمح لثوار درعا بالاستمرار في معركتهم التي يمكن أن تكون نموذجًا صالحًا يمكن تكراره على مساحة سورية؟ وهل لدى الثوار في تلك المناطق مقومات صمود تحمي انتصاراتهم لفترات طويلة، حتى تستطيع الثورة استعادة عافيتها في باقي المناطق، خاصة في الشمال السوري؟ كل هذا ستجيب عنه الأيام والأسابيع والأشهر القادمة، لكن ما هو واضح أن شباب الثورة لديهم المقومات التي يمكن أن يستمروا من خلالها في السيطرة على الوضع، وفرض إرادتهم في المعادلة، إذا اتبعوا تكتيكات عسكرية وأمنيّة تساعدهم في ذلك، مثل استمرار التحرّك العسكري بسريّة مطلقة، وعدم الاحتفاظ بالمناطق التي حرروها لوقت طويل، مع منع قوات العدو من السيطرة عليها بشكل كامل، إضافة إلى ضرورة الحذر من الاختراقات الأمنية، خاصة من أبناء جلدتهم، وأيضًا عدم الاكتراث بالوعود المخادعة التي يقطعها المحتل الروسي، لثبوت كذبها، لأن جُلّ هدفها تمكين الأسد وإعادة إنتاجه وإنتاج نظامه المهترئ.
خالد المطلق _ مركز حرمون للدراسات