منذ اللحظة الأولى لتسريب المصور المنشق عن الشرطة العسكرية لنظام الأسد المسمى “قيصر” آلاف الصور لمعتقلين سوريين وفلسطينيين قضوا في الفروع الأمنية لنظام الأسد، بدأ أهالي المعتقلين والمفقودين السوريين البحث في هذه الصور لمعرفة مصير المعتقلين، حتى ولو كان مصيرهم الموت الذي قد يرون فيه خلاصا لهم من العذاب على يد جلادي الأسد.
وبالرغم من وجود آلاف الصور، إلا أن التعرف على هوية أصحابها، ليس بالأمر السهل، حيث لا توجد سوى أرقام لهؤلاء المعتقلين، إضافة إلى رقم فرع الأمن الذي كان معتقلا به الشخص، إضافة إلى التغيرات التي لحقت بالمعتقلين قبل وفاتهم جراء التعذيب والتجويع والمرض، وما لحق بهم بعد وفاتهم من تحولات وتغيرات.
كلام أهل الاختصاص
يوضح الخبير الجنائي محمد كحيل (أبو جعفر)، والذي سبق له وأسس وترأس مديرية الطبابة الشرعية في حلب خلال فترة خروجها عن سيطرة نظام الأسد، يوضح أن هناك طرقا للتعرف على هوية أصحاب صور “قيصر”.
فيقول “هناك عدة طرق للتعرف على هوية الجثامين وخاصة المجهولة الهوية هناك ابتداء من أخذ خزعة أو عينة من الحمض النووي للجثة المسمى “DNA” مرورا بموضوع البصمات أو ما يسمى (الانطباعات البصمية) لأصابع الكفين والقدمين، أو من خلال الميزات والعلامات الفنية الفردية الخاصة كأن يكون هناك ندبة أو وشم في الجسم، أو آثار لعمل جراحي، أو علامة مميزة في أحد الأصابع أو في أو تشوه واضح في أحد أعضاء الجسم، أو من خلال من خلال اللحية أو الشعر أو الحاجبين أو العيون، بالإضافة إلى غيرها من الطرق التي نعتمدها في التعرف على هوية الجثامين”.
ويضيف قائلا “إن هناك إمكانية التعرف من خلال أسنان الفكين والأضراس أيضا، حيث هناك علم خاص ومستقل بهذا البحث في الطبابة الشرعية يسمى (علم الأسنان الجنائي)، حيث إن هناك علامات وميزات تقارب الانطباعات البصمية في أهميتها وتسمى (بصمة الفم) و(بصمة الأسنان)، حيث يمكن أيضا من خلالها تحديد هوية الجثث بالاعتماد على الأرشيف الطبي والمرضي للشخص أو من خلال المعلومات المقدمة من ذوي الأشخاص كأن يكون على سبيل المثال لدى الشخص (سن ملبس بمادة معينة كالذهب أو الفضة) أو لديه أحد الأسنان منخورة أو لديه أحد الأضراس مقلوعة أو لدى الشخص نتوء أو بروز بالأسنان الأمامية، وهكذا يتم التعرف، بالإضافة إلى من عدد الميزات والعلامات الفنية الفردية والتي لا يتقنها ويعلمها إلا الخبراء في العلوم الجنائية والمتخصصون في مجال مسرح الجريمة أو الطب الشرعي وكذلك الطبيب الشرعي وطبيب الأسنان الشرعي”.
“كحيل” يشير إلى أنه بعد حدوث الوفاة تحدث الكثير من التغيرات على الجثمان ابتداء مما يسمى التصلب الرمي والتعفن والتصبن والتحلل، وغيرها من المتغيرات التي تندرج ضمن مفهوم التحلل أو ما يعرف بعمليات التفسخ أو التحلل وتعرض الجثث لما يسمى “التغيرات الرمية”، حيث تؤدي تلك التغيرات إلى حصول عدد من العمليات الكيميائية والفيزيائية داخل الجسم وتتأثر بها الوجوه وهيكل الجثة بشكل عام، لكن هذا التأثير يبقى متأخر، ففي الأيام الأولى يمكن التعرف على الجثة بشكل أسهل على الرغم من حصول بعض التغيرات الطفيفة، لكن بمرور وقت أو زمن طويل على حدوث الوفاة، يتابع “كحيل”، تتفاعل البكتريا داخل الجسم ويبدأ الجسم بإطلاق الغازات، وهنا تكمن المشكلة الأكبر حيث تؤدي تلك العوامل إلى حدوث (انتفاخ في الوجه – انتفاخ بالعيون – انتفاخ بكل أجزاء الجثة وخاصة الأجزاء الممتدة من فوق العانة إلى الرأس، وهنا تبدأ مرحلة تسمى (التغيرات الجيفية)، وتؤدي إلى صعوبة بالتعرف على الجثة، كل هذا مقبول ويمكننا التعرف على هوية الجثث.
ويردف الطبيب الشرعي: “مع تعرض الشخص قبل وفاته لآثار عنف وشدة وتعذيب كما حصل مع المعتقلين السوريين لدى نظام الأسد، وما نتج عنها من كسور، وهو ما أدى لحصول تغيير في معالم الأشخاص، كما في صور قيصر التي يظهر فيها واضحا ماعاناه هؤلاء من تعذيب وتجويع وسوء التغذية إضافة للأمراض، حيث ساهمت تلك العوامل بالتأثير على شكل الشخص قبل الوفاة، أي أنه تغير شكله قبل الوفاة، وهو ما أدى حتما إلى تغيير شكله وملامحه أيضا بعد الوفاة بفعل العوامل التي ذكرناها مسبقا، وهذا ما يشكل صعوبة بالغة للخبراء في التعرف على هوية جثامين هؤلاء المعتقلين”.
مطابقة الصور
وبالانتقال إلى السؤال الأبرز والأهم وهو طرق التعرف على هوية صور “قيصر” من خلال مطابقتها بصور موجودة لدى أهالي المعتقلين، أكد “كحيل” أنه يمكن للخبراء الجنائيين والأطباء الشرعيين ذلك، وقال: “إن أبرز وأهم الطرق يعتمد عليها الخبراء والمختصون في التعرف على هوية الجثث للمعتقلين من خلال مطابقة الصور ومقارنتها بصورهم قبل وفاتهم التي يتم إرسالها من قبل ذويهم، من أهم تلك الطرق، هناك بصمة تسمى (بصمة الأذن)، وهي إحدى طرق التعرف التي تعتمد على شكل صيوان الأذن في حال كانت الأذنين ظاهرة بشكل واضح في الصور ولم تتعرض لتشوّه أو قطع أو بتر ناتج عن التعذيب”.
وأكد أن الطبيب الشرعي المتمرس والمختص يعرف جميع العلامات التي يمكن الاعتماد عليها للمطابقة والمقارنة، ويعرف التغيرات التي طرأت على الجثة، والفترة الزمنية التي مر بها هذا التغير، حيث إن أول تغيير يطرأ على الجثة إصابة الجسم بالانحلال، ثم تبدأ بعد ذلك عملية التصلب الرمّي، وتمتد هذه العملية بعد الوفاة بحدود ثلاث أو أربع ساعات إلى 12 ساعة، ثم ينكسر هذا التصلب، بالإضافة (للزرقة الرمّية)، كل هذه العوامل يمكن العمل عليها عندما تكون الجثة موجودة أمامك، وعندما لا تكون الجثة أمامك ولديك فقط صورة منها كحالة صور “قيصر”، والتي قمنا سابقا بإجراء عمليات مقارنة لصور جثث لمعتقلين أرسلت لنا من صور قيصر، حيث اعتمدنا من خلال خبراتنا على الآثار والعوامل والتغيرات التي طرأت على الجثة، ومن ثم مقارنتها مع الصور السليمة للأشخاص والتي أرسلت لنا من ذويهم، حيث نعتمد على عدد من المعايير منها (شكل الفم) (شكل الأنف) (شكل العينين).
يواصل “كحيل” الشرح مضيفا “في حال كانت صور الأذنين واضحة نعتمد على شكل الأذن، ونقوم بمعاينة الشعر والصلع إلى غيرها من العلامات الفردية التي يتم دراستها وبحثها ومقارنتها مع الصور، ولن تكون النتائج 100% دقيقة إلا في الصور الواضحة تماما، وحتى أن بعض الأهالي يرسلون لنا صورا قديمة ليس لدينا علم ما عمر الشخص في الصورة أو ترسل غير واضحة أو بشكل جانبي أو بسبب عدم وجود صور كافية للشخص وهو ما يؤدي إلى مواجهتنا لصعوبات في التعرف، لكن مع ذلك ومن خلال خبرتنا نحاول قدر الإمكان مقارنتها بصور قيصر”.
“كحيل” نوه إلى أمر آخر يساعد على إجراء عملية مطابقة سليمة والحصول، وهو الطلب من الأهالي عند إرسال صور لخبراء أو لأطباء شرعيين متمرسين ومتمكنين، وحتى يسهل مقارنة الصور والحصول على نتائج صحيحة، يجب أن يكون هناك العديد من الصور وبمراحل عمرية مختلفة، أي في حال كان لدينا شخص اعتقل بعمر 30 عاما، لا يجب إرسال صور للمطابقة وهو بعمر 15 أو 16 عاما، حيث ستكون المطابقة حينها غير واضحة ودون جدوى، لكن في حال توفر عدة صور بوضعيات مختلفة ولمراحل عمرية مختلفة، فهذا يسهل عمل الخبير الجنائي، ويمكنه من حساب وتقدير الفترة الزمنية التي أمضاها المعتقل في السجن وموضوع سوء التغذية وموضوع التعذيب الذي تعرض له المعتقل أو تحديد حالات مثل فقدان الأسنان أو فقدان للشعر بسبب التعذيب، وآثار وجود كسور، حيث لاحظت شخصيا وجود حالات لكسور في عظم الفك في الوجه، حيث يأخد الخبير بعين الاعتبار كل هذه العوامل، مع مساعدة الأهالي بتقديم المعلومات والصور.
لا تحسموا قراراتكم إلا برأي مختص
وأضاف كحيل، أتوجه للأهالي بعدم حسم القرارات بتأكيد أو نفي هوية المعتقلين في صور “قيصر” من خلال ناس عاديين، لأن التبدلات التي تطرأ على الجثث لا يمكن ملاحظتها إلا من خلال الطبيب الشرعي والخبير الجنائي المختص المتمرس، لكي يستطيع دراسة الحالة بكافة جوانبها بدءا من ظروف الاعتقال والتعذيب الجسدي والنفسي، حيث تنعكس كل تلك الآثار على الشخص قبل وفاته، أي حتى بتصوير الشخصي هو حي سوف نشاهد متغيرات ومفارقات كبيرة مع صورته قبل اعتقاله، فكيف بالتغيرات الرمية الطارئة التي تحصل على الجثة في مراحل متعددة من مراحل التحلل والتفسخ، لذلك أرجو من الأهل التروي والصبر، ولذلك الغرض أنشأنا لجنة من الأطباء الشرعيين والخبراء الجنائيين للتخفيف عن الأهالي ومساعدتهم في عملية التحقق من خلال إعطائهم أقرب للواقع، ويمكن لأهالي وذوي وأقرباء المعتقلين مراسلتنا من خلال الانضمام إلى غرفة على تطبيق تلغرام باسم (دراسة صور قيصر)، التي تضم كلا من (الخبير الجنائي محمد كحيل – الخبير الجنائي في مجال التعرف على الصور ومسرح الجريمة خالد قلعه جي – الطبيب الشرعي أحمد شيخ أحمد – الطبيب الشرعي رافت طه – الطبيب الشرعي جهاد برو).
وختاما كشف الدكتور “كحيل” مذكّرا بجرائم النظام في مدينة حلب قبل إعادة السيطرة عليها فقال “خلال عملي في حلب بالطبابة الشرعية وخصوصا في الأشهر الأخيرة قمنا بتوثيق وتصوير الكثير من الجثث التي لم يتعرف عليها أحد ممن قضى نتيجة القصف الروسي والإيراني على الإحياء الشرقية للمدينة”.
وكشف أنه “سوف ننشر تلك الصور من خلال (زمان الوصل) أو من خلال الطبابة الشرعية لكي يتعرف الأهالي على هوية تلك الجثامين التي دفنت دون أن يتعرف عليها أحد، ولدينا الكثير من الوثائق، ابتداء مجزرة النهر الشهيرة (نهر قويق) وانتهاء بمجازر القصف نهاية العام 2016، حيث هناك الكثير لم يتم التعرف عليهم حتى اللحظة، سوف يتم عرض هذه الصور خلال أيام والتواصل مع أهالي الشهداء لمعرفة مصيرهم”.
الكاتب : عروة السوسي – زمان الوصل