syria press_ أنباء سوريا
قتل المارشال إدريس ديبي، الرئيس التشادي الذي أمضى ثلاثين عاما في الحكم، قبل أيام في أثناء زيارة مفاجئة لقوات جيشه الذي يقاتل المعارضة المسلحة على الحدود مع ليبيا. وقبل يوم من مقتله، كان قد أعلن فوزه، مجدّدا، برئاسة البلاد. وربما لولا تلك الزيارة القاتلة لحكم تشاد ثلاثين عاما أخرى، فهو قُتل عن عمر الثامنة والستين سنة، أي لا يزال شابا، حسب التصنيفات العُمرية الجديدة. ولربما كان قد عاش حتى التسعين وهو يحكم، لا أحد يعرف، لكنه قتل، قبل الاحتفالات الشعبية والرسمية بإعادة انتخابه أو فوزه بالانتخابات، وكلنا نعلم كيف يتم الفوز في الانتخابات في دول العالم الثالث، المحكومة من أنظمة شمولية عسكرية، تتصرّف بالبلاد كما لو أنها مزارع أو ملكية كبيرة مطوّبة لها، وتتحكم بها كما تشاء.
تصنف تشاد من أكثر البلدان فقرا وفسادا، على الرغم من أن عدد سكانها لا يزيد عن خمسة عشر مليون نسمة، ولديها عائد وفير من النفط والإنتاجين، الزراعي والحيواني، ومخزون هائل من الذهب والمعادن الثمينة، ومساحات شاسعة من الأراضي التي كانت تزرع بالقطن (الزراعة التقليدية)، وأُهملت لاحقا. ولديها امتداد كبير في منطقة السافانا الخصبة، ونهران كبيران يشكل مصبّهما بحيرة ضخمة. كل ما فيها يجعلها مهيأة لتكون دولة غنية، ويهيئ شعبها (يعاني من الفقر والجهل والأمية) ليعيش في رخاء وأمان، لولا أن تشاد، مثل بقية دول العالم الثالث التي ابتليت باستعمار أوروبي منذ بدايات القرن الماضي (استقلت تشاد عن فرنسا عام 1960)، لا يُسمح لها بأن تُحكم بنظام ديمقراطي وطني ومدني، ينهض بها وبشعبها، لتكون دولة حديثة وناجحة، وليتمتع شعبها بحقه في حياة كريمة وعادلة من دون خوف، لا من الظلم ولا من الفقر ولا من المستقبل الذي لا يمكن الاتكال عليه في الغالبية العظمى من دول العالم الثالث.
قُتل إدريس ديبي، ومع ذلك لم تحدث فوضى في البلاد، إذ تسلّم المجلس العسكري زمام الأمور مباشرة، ونقل حكم البلاد إلى نجل إدريس ديبي (بسلاسة). ويبدو أن الأمر كان مرتبا، أي أن التوريث كان مرتّبا بشكل مسبق، في حال موت الرئيس الحالي، وهو ما لا يحدث إلا في الدول ذات النظم الشمولية العسكرية القمعية، التي تُباهي بأن كل شيء تحت السيطرة الأمنية والعسكرية الجاهزة لمجابهة أي اختراق للخطط الموضوعة في حال حدث الاختراق. وطبعا هو نادر الحدوث، إذ إن نظما كهذه يتشكّل بنيانها باعتناء شديد، بحيث إن الجميع مختارون بدرايةٍ ودقة، ومقرّبون إلى حد ألا يخطر في بال أحدهم خيانة “ولي نعمته”، القرابة التي ليست فقط في الدم، بل في الفساد والسلطة والقوة، شيء يشبه نظام العائلة المافياوية تماما، ليس كل أفراد العائلة من الدم ذاته، لكنهم جميعا من الذهنية الفاسدة نفسها.
أتذكّر، حين مات حافظ الأسد في 10 يونيو/حزيران عام 2000 (حكم أيضا 30 عاما)، كيف ظهرت الأسلحة المخبأة في أماكن مخفية لدى “مواطنين” كثيرين، حيث دبّ الرعب لحظة إعلان الخبر، إذ عادت إلى الذاكرة الجمعية السورية فورا ما حاول النظام طمسه: مجازر الثمانينيات وما خلّفته في نفوس السوريين من انقسام وحقد خفي، وساد الاعتقاد أن سورية مقبلة مع هذا الخبر على حمام دم طويل الأمد، بيد أن ذلك لم يحصل وقتها. تم انتقال الحكم (بسلاسة) كما وصفته وقتها وكالات الأنباء، اجتمعت العائلة المافياوية (أركان النظام)، وأعلنوا تنصيب الابن الوريث بعد تعديل الدستور باجتماع لم يستغرق ساعة واحدة. وطبعا حظي الوريث بالدعم العالمي الكامل، سيما الأميركي والأوروبي، إضافة إلى الدعم العربي في كل الأحوال، حيث كان مبدأ التوريث هو ما كانت عليه عين حكام “الجمهوريات” العربية كلها. تلكما “السلاسة والسرعة” اللتان أدهشتا العالم، فُسرتا وقتها بأن حافظ الأسد كان قد مات منذ مدة طويلة. ولم يُعلن الأمر، حتى تم ترتيب كل شيء. ربما كان هذا صحيحا، ولكن ليس وقتا طويلا، إذ إن نظما كهذه تضع دائما خططا للطوارئ، تنفذها في حال حدث ما لم يكن أحد يتوقعه. ليس موت الرئيس فقط، بل أيضا احتجاجات أو انتفاضات وثورات كالتي حصلت في الربيع العربي، وأدّت إلى ما أدّت إليه. هل سيظن أحدٌ، بعد كل ما حدث، أن مآلات الربيع العربي حصلت مصادفةً؟ أشك في ذلك.
رشا عمران_ العربي الجديد