من المعروف لمُراقِبي الوسط الصناعي السوري، أن رجل الأعمال الحلبي، فارس الشهابي، هو ابن النظام المُدلل، لفترة طويلة، بصورة أوصلته، بغير وجه حقّ، إلى رئاسة غرفة صناعة حلب منذ العام 2010، وإلى رئاسة اتحاد غرف الصناعة السورية، منذ العام 2012، وذلك على حساب صناعيين مرموقين في تاريخ المدينة، وأكثر خبرة من الأربعيني المعروف برعونته، وطموحه غير المحدود، الذي دفعه للظن، بأنه سيكون رئيساً لوزراء سوريا، في وقتٍ من الأوقات.
لكن من المُسلّم به أيضاً، أن الصناعي الذي عُرف بتشبيحه المبالغ به لصالح نظام الأسد بعيد اندلاع الثورة عام 2011، ما كان ليتجرأ على شقيق رأس النظام، ويصوّب على مقاتلين يتبعون له، لو لم يكن يحظى بسندٍ يغطيه. بل، وما كانت مقدِمة برنامج “فن الممكن” على الإخبارية السورية، ربي الحجلي، التي استضافت الشهابي، لتتجرأ على أن تسأله سؤالاً تعلم جيداً أنه سيقود إلى التصويب على الفرقة الرابعة التي تحيط حواجزها بمدينة حلب، لو لم تكن قد حظيت بضوء أخضر من جهة أمنية ما، في العاصمة دمشق.
لم تذهب جُرأة فارس الشهابي إلى مُنتهاها، بطبيعة الحال. فهو لم يحدد الفرقة الرابعة أو آمرها الفعلي، ماهر الأسد، بالاسم. بل ادعى جهله بالجهة التي تتبع لها تلك الحواجز التي تثقل كاهل صناعيي حلب، بالإتاوات. لكن مجرد الإشارة إلى هذا الواقع، الذي يعلم كل سكان المدينة، تفاصيله، يُعتبر تصويباً على أحد أبرز أعمدة اقتصاد الفرقة الرابعة، التي أثرى منها شقيق رأس النظام، والتي تشكل واحدةً من أبرز مصادر قوته على الساحة السورية.
وكانت حلقة الإخبارية السورية التي أُعدت بغاية التقصي عن حجم هجرة الصناعيين من البلاد، وواقع البيئة الاستثمارية الصناعية اليوم، مناسبةً للكشف عن جانب من تعقيدات العلاقة الروسية – الإيرانية في سوريا، والتي ذهبت معادلات “التعاون التنافسي” التي تحكمها، بعيداً، إلى حد استمالة مؤسسات بأكملها لصالح كل طرف، وكذلك استمالة قطاعات من رجال الأعمال، إلى جانب كل طرف.
فالصناعيون في حلب، يبدون أقرب إلى الجانب الروسي، ويحظون بدعمٍ من مؤسسات من المفترض أنها محسوبة على “الدولة السورية”، لكنها تخضع فعلياً لنفوذ روسي جلّي. فيما تقاطعت مصالح إيران مع قطاعٍ واسعٍ من التجار في حلب. ما يدعم ذلك، دور حواجز الفرقة الرابعة والميليشيات الإيرانية النافذة على الأرض في قلب سوريا الصناعي، وعلى الطرق التي تربطها مع الأرياف والمحافظات السورية الأخرى، ومع الشمال “المعارض”.
فتلك الحواجز تعدّ منافذ التهريب الرئيسية للبضائع التركية، التي أنهكت الصناعة السورية. وفي الوقت نفسه، هي إحدى أدوات التضييق على تلك الصناعة، عبر المزيد من العبء المالي، من خلال الإتاوات التي تحصدها من كل صناعيّ يخرج من المدينة الصناعية، كما أشار الشهابي نفسه.
لم يكن ما قاله الشهابي أمراً مفاجئاً أو مستغرباً، فقد أشارت مصادر بحثية وإعلامية عديدة، خلال السنوات الأخيرة إلى تنامي دور حواجز الفرقة الرابعة في فرض الإتاوات بمدينة حلب، وفي عموم الجغرافيا السورية الخاضعة للنظام.
من ذلك، تقرير ملفت نشره موقع “عنب بلدي”، في شباط/فبراير الماضي، استند إلى شهادات عيان لصناعيين سوريين، تحدثوا عن ابتزاز حواجز الفرقة الرابعة لهم، في مدينة حلب، ومحيطها. فيما أشار تقرير نشره معهد الشرق الأوسط – مؤسسة بحثية أمريكية- في 24 أيلول/سبتمبر الفائت، إلى دور الفرقة الرابعة في جباية الأموال عبر حواجزها على الطرقات والمعابر.
ناهيك عن ارتباطها بطبقات اقتصادية صاعدة، من أبرز رموزها، خضر علي طاهر، المعروف بـ “أبو علي خضر”. وفيما اعتبر التقرير المشار إليه، تلك السمة التي تتصف بها الفرقة الرابعة، نقطة ضعف، أسهب في الوقت نفسه، بالإشارة إلى الدعم الإيراني اللامحدود لتلك الفرقة وآمرها، ماهر الأسد.
وبالعودة إلى حوار الشهابي مع “الإخبارية السورية”، ورغم أن الرجل إدعى جهله بالجهة التي تتبع لها تلك الحواجز التي تبتز صناعيي المدينة، إلا أنه وصف عناصرها بـ “اللصوص”، وإن كان قد حاول التخفيف من ذلك التوصيف في الجملة نفسها، حينما قال إنها تجاوزات شخصية، لكنها تزيد من الضغوط التي يعاني منها الناس.
وكما تؤشر جرأة الشهابي في التصويب غير المباشر على ماهر الأسد، إلى أنه يحظى بغطاءٍ روسيّ، يؤشر حذف الإخبارية السورية، اللاحق، للمقطع الذي تحدث فيه الشهابي عن الإتاوات والحواجز، من حسابها على تيليغرام، إلى ازدواجية مصادر صنع القرار في العاصمة السورية، وداخل مؤسساتها الأمنية، التي توجّه الأجهزة الإعلامية. وسبق أن حدث ذلك، حينما حذفت “الإخبارية السورية” مقطعاً من لقاء تلفزيوني سابق، مع الشهابي نفسه، كان قد تحدث فيه عن “أبو علي خضر”، المقرّب من ماهر الأسد. لكن “الإخبارية” استضافت الشهابي مجدداً، وطرحت عليه مقدِّمة البرنامج سؤالاً تعلم أنه سيقوده إلى التصويب على ماهر الأسد وفرقته الرابعة.
هكذا هي “سوريا الأسد”، اليوم. جسد برأسين – بشار وماهر-، تتلبسه رُوحان، إيرانية وروسية. وفيما تراهن إيران على فئة من التجار السوريين، تذهب روسيا في رهانها إلى الصناعيين، وإلى مؤسسات “الدولة المركزية” في دمشق، ومن بينها، الجمارك، التي سبق أن شنت حملات ضد تجار حلب، المتحالفين مع الفرقة الرابعة والميليشيات الإيرانية، في تهريب البضائع التركية. لكن بقيت تلك الحملات محدودة الأثر. وبقيت الكلمة العليا في حلب، عاصمة الصناعة السورية، لتجارها لا لصناعييها.
لذلك كان فارس الشهابي يعبّر عن وجع أبناء جلدته، في الوقت نفسه، الذي يعبّر فيه عن وجعه الشخصي. فالداعم الروسي له، عجز حتى الآن عن منحه ما كان يطمح إليه. هذا الوجع سيبقى دافعاً يجعل الشهابي يتجرأ على “أمراء الحرب”، وعلى الحواجز والإتاوات، وربما على ماهر الأسد، بصورة غير مباشرة.
لكن، لا تبدو الجرأة بالكلام ذات جدوى، ما دامت روسيا، الفاعل الأقوى نظرياً على الساحة السورية، عجزت حتى اليوم، عن كبح جماح تمدد الفرقة الرابعة، وهيمنتها على أحد أبرز مصادر اقتصاد الحرب بسوريا، التهريب والتعفيش، وإتاوات المعابر.
إياد الجعفري _ المدن