من التداعيات غير المنظورة بشكل مباشر للحرب العشرية (حتى الان) في سوريا، تلك المتعلقة بالانهيارات المركبة التي أصابت الأسرة السورية، وخاصة الحلقتين الأضعف فيها، وهما النساء والأطفال.
ولعل أبرز هذه التداعيات المترافقة مع زيادة معدلات الفقر والبطالة، بروز ظواهر مثل المرأة المعيلة للأسرة بسبب فقدان أو غياب الرجل المعيل، وعمالة الأطفال، وزواج القاصرات تخلصا من عبء الانفاق عليهن، وما نتج عن ذلك من اختلالات أسرية واهتزاز القيم الاجتماعية، فضلا عن تأثير النزوح والهجرة في مضاعفة التفكك في الأسرة السورية وتشتت أفرادها وانقسامهم، ليس جغرافيا وحسب، بل حتى انطلاقًا من الموقف السياسي لما يجري في البلاد.
وكل هذه الضغوط، أسهمت في زيادة حالات العنف الأسري ومعدلات الطلاق في المجتمع السوري، بما في ذلك المجتمعات الجديدة التي وفد إليها اللاجئون السوريون هربا من الحرب، حيث وجدت كثير من النساء السوريات في قوانين البلدان الأوروبية سندا لهن في مواجهة “سطوة” الرجل الشرقي، وهي مواجهة كثيرا ما تنتهي بالطلاق، نظرا للصعوبة التي يجدها الرجل في ابتلاع فكرة أن المرأة تستطيع محمية بالقانون، أن تتمرد على إرادته، و”تخرج عن شوره”، في ظل غياب سلطة المجتمع والأهل والأعراف والتقاليد التي كانت تحمي سلطة الرجل، وتعزز مكانته في بلدهم الأصلي.
وفي هذا السياق، تشير معطيات عدة الى تزايد حالات الطلاق بين السوريين في البلدان الأوروبية التي وفد اليها اللاجئون السوريون بما في ذلك تركيا، فيما اعتبره البعض ظاهرة صحية على صعيد “تصحيح” الاختلال في بنية الأسرة السورية المختلة تاريخيا لصالح الرجل، بينما رأه آخرون مجرد انهيار استتباعي آخر، من ضمن الانهيارات العديدة التي تضرب البلاد منذ 10 سنوات، بدءا بتدمير الأبنية والمرافق، مرورا بانهيار سلم الأمن الغذائي إلى حد الجوع الحقيقي، وصولا إلى انهيار بنية العلاقات المجتمعية، وتوزعها بين موالاة ومعارضة أو فاسدين وتجار حرب من جهة، وفقراء مسحوقين من جهة أخرى.
وبطبيعة الحال، هذا التفسخ لا يقتصر على مجتمعات اللاجئين في الدول الأوروبية، بل يترافق مع تفسخ داخل سوريا نفسها، لكن لأسباب مختلفة، لا تتعلق بالصراع على الحقوق والسلطة بين الرجل والمرأة، بل بالظروف الاقتصادية والمعيشية السيئة، فضلا عن تشتت الأسر بعد وفاة المعيل في الحرب، أو هجرته خارج البلاد، فضلا عن الاستعمال السلبي لوسائل التواصل الاجتماعي سواء من الزوج أم الزوجة.
وفي موازاة ذلك، باتت تطرح خاصة من خلال بعض الناشطين والنسويات عبر وسائل التواصل الاجتماعي مسألة حقوق المرأة في مواجهة “الرجل الشرقي” المتغول عليها، وهو طرح قد يخلو أحيانا من التوازن، ويكون بلا تمحيص كاف بشأن واقع المرأة السورية، وما هي طبيعة المعوقات التي تحول دون أخذ دورها في المجتمع، وهل ما ينادي به بعض الناشطين والناشطات مثل المساواة المطلقة والمثلية ونزع الحجاب، هو أولوية حقيقية للمرأة، وللمجتمع بشكل عام، أم مجرد تقليد ونقل لتجارب شعوب أخرى؟
من حيث المبدأ، المرأة والرجل، كلاهما حقوقه منتهكة في مجتمعاتنا العربية من جانب السلطات العليا سواء كانت سياسية أم روحية، أو بحكم العادات والتقاليد المتوارثة، والتي انتقلت إلينا جيلا بعد جيل، دون تعريضها للنقد والتمحيص. فالقوانين السائدة في بعض بلدان المنطقة، تنتقص من بعض حقوق المرأة، وتجعل من الرجل ولياً عليها في بعض شؤون الحياة، لكن بالنسبة للزمن الذي وضعت فيه هذه القوانين كانت مناسبة إلى حد ما، ومتوافقة مع العرف الاجتماعي، بالنظر إلى أن المجتمع والقانون نفسه، يخفف في المقابل من مسؤوليات المرأة، ويضع جل المسؤولية على عاتق الرجل سواء لجهة الإنفاق على الأسرة والأهل، أم المهام الأخرى المرتبطة بالبنية الجسدية للرجل والمرأة، مثل عدم مطالبة المرأة بالخدمة العسكرية. وهذا تمايز عن المجتمعات الأخرى التي تقدم درجة أعلى من الحقوق للمرأة، لكن في المقابل لا تميز في التكليف بين الجنسين، وتضع الإنفاق على عاتق الجهة المنتجة، سواء كان رجلا أم امرأة.
أما في مجتمعاتنا، فإن للمرأة ذمة مالية منفصلة عن الرجل حتى بعد الزواج. بل إن أعراف الزواج وقوانينه، تلزم الرجل غالبا بالتعويض على المرأة في حال الانفصال، مواصلة الانفاق عليها وعلى الأطفال، وهو حاصل أيضا في البلدان الأوروبية، لكنه يخص الجهة المنتجة، ولا يخص الرجل وحده. وفي حال كان الطرفان كلاهما غير منتجين، تتكفل الدولة بالإنفاق على الأطفال، وهذا متعذر كما هو معروف في مجتمعاتنا. ومن هنا يأتي خطأ المقارنة مع تلك المجتمعات التي تتكفل الدولة والمؤسسات المختلفة بتأدية الكثير من الواجبات الملقاة في مجتمعاتنا على عاتق الأفراد، وخاصة الرجل.
واذن، فان المطالبة بالمساواة المطلقة في الحقوق والواجبات، يجب أن تأخذ في الاعتبار اننا نعيش في مجتمعات تطحن فيها حقوق الضعفاء من رجال ونساء، وتضعف سلطة القانون، ما يجعل المرأة أقل قدرة على مواجهة تحديات الحياة، بمعزل عن الاستعانة بالرجل، سواء كان زوجا، أم شقيقا، أم أبا، أم صديقا.
وما يؤيد ذلك، أن المرأة السورية، حتى في ظل القوانين الأوروبية التي تحميها وتشجعها على الانفصال عن زوجها إذا وجدت علاقتها معه غير متكافئة، فإن حصولها على الطلاق لا يكون كما تشير العديد من التجارب، بداية لحياة جديدة ناجحة للمرأة، بل مجرد فورة تتحرر فيها من قيود الرجل والمجتمع، ثم سرعان ما تعاود الارتباط برجل شرقي آخر لا يختلف كثيرا عن زوجها الأول، لأنها ببساطة لم تعد نفسها لتحمل تبعات الانفصال عن الرجل، أي شق طريقها بالعلم والعمل والاعتماد على النفس، بسبب افتقادها للتأهيل العلمي أو عدم معرفتها بلغة البلاد التي تعيش فيها، وعدم تعودها على تحمل المسؤولية، والاستقلال المادي والمعنوي عن الرجل.
والمسألة الأهم، هي مصير الأطفال الذين كثيرا ما يوكل أمرهم إلى جمعيات أو أسر أجنبية بعد الانفصال بين الزوجين، وتصبح مجرد رؤيتهم تحتاج إلى موافقة من المحكمة وبوجود مشرف اجتماعي، ما يعني في المحصلة خسارة الأولاد، وترك مستقبلهم للمجهول.
لا شك أن للمجتمعات الجديدة التي وفد اليها السوريون مسؤولية معينة في تشجيع عمليات الطلاق بين اللاجئين بسبب ما تقدمه من ضمانات وفرص ووعود للمرأة، لكن الخلل الأساسي يقع في الأسرة السورية نفسها التي اتضح انها ليست مبنية على أسس سليمة، ما يجعل المشكلات الاجتماعية والاقتصادية المتراكمة في البلد الأصلي تنفجر فجأة أو عند أول اختبار.
وخلاصة القول، فإن العمل والوعي هما مفتاح حقوق المرأة. ومع الإقرار بوجود تهميش، وربما ظلم للمرأة في المجتمع السوري، فإن مواجهة ذلك تتطلب جهودا متراكمة تتوجه إلى كلا الطرفين الرجل والمرأة من ناحية التوعية والتثقيف، بالتوازي مع إقرار ترسانة قانونية تحمي المرأة والرجل والأسرة بشكل عام، ولا تجعل أيا منهما خصما مفترضا للآخر، بل هما في شراكة يفترض أن تبنى على الحب والتفاهم الاحترام، ومحمية بقوانين رادعة ومنصفة.
عدنان علي _ الحل نت