مع انقضاء اليوم الخامس للغزو الروسي لأوكرانيا بدأت تظهر التداعيات الإنسانية للحرب، وبدأت تتصدّر الشاشات وقنوات التلفزة صور ومشاهد سكان أوكرانيا وهم يتدفقون باتجاه حدود الدول المجاورة، حفاظاً على أرواحهم وفراراً من طائرات بوتين وقاذفاته التي – وكعادتها في اتباع سياسة الأرض المحروقة – لا تميّز بين هدف عسكري أو سكان مدنيين، في مسعى نحو حسم المعركة بأقل قدر من الوقت، تحاشياً لسيل العقوبات الأميركية والأوروبية التي بدأت بتطويق روسيا، إن لم نقل بدأت بتقويض أركانها الاقتصادية والمالية، سعياً إلى تجفيف نفوذها وقوتها، وشل عنتريات بوتين التي باتت عنصر استعراض يتباهى به القادة الروس.
لعل مستوى التعاطف وردّات الفعل الإنسانية سواء من دول جوار أوكرانيا أو من دول أوروبا الغربية كان رائعاً، بل يمكن الذهاب إلى أنه شعور إنساني جمعي ينمّ عن درجة عالية من الحس الإنساني نحو التعاطف مع ضحايا الحروب والكوارث
لعل اللافت للانتباه هو ردّة فعل مواطني الدول المجاورة لأوكرانيا، وعلى وجه الخصوص، رومانيا وبولندا، حيث تابع العالم على النقاط والمعابر الحدودية لهاتين الدولتين طوابير المواطنين الأوكرانيين وهم يحملون أمتعتهم وأطفالهم، يقصدون الدخول إلى دول الجوار طلباً للأمان على أرواحهم، وما إن تطأ أقدامهم نقاط العبور حتى يجدوا أفواج المستقبلين من مواطني الدول المجاورة، سواء أكان هؤلاء المُستقبِلين من جهات حكومية أو منظمات مجتمع مدني أو جمعيات إنسانية أو أصحاب مبادرات شخصية، بهدف تقديم خدمات عاجلة للنازحين الأوكرانيين بطريقة فيها الكثير من التعاطف والحفاوة، إلى درجة بلغت بالبعض أن يحمل بين يديه عريضة أو لافتة توحي لمن يرغب بإيجاد مأوى لفترة غير محدودة، مما دفع أحد مراسلي القنوات الإعلامية للقول على الهواء: لقد انقلبت الآية، إذ يمكننا أن نرفع شعار: (مأوى بلا لاجئين) وذلك على خلاف ما هو معهود سابقاً، وقد بلغت مستويات التعاطف الإنساني لدى بعض حكومات الدول المجاورة إلى أنْ حذّرت سائقي سيارات الأجرة من أي محاولة لابتزاز مالي لأي لاجئ أوكراني، وهدّدت بسحب إجازات السوق من كل سائق يثبت عليه محاولة ابتزاز. أضف إلى ذلك، فإن العديد من الدول الأوربية الغربية قد أصدرت تعليمات عاجلة لحكوماتها تقضي بإتاحة تسهيلات هائلة أمام اللاجئين الأوكرانيين، سواء من حيث الإقامات أو إجراءات إيجاد السكن أو سوى ذلك، فضلاً عن إعلان بعض الحكومات تقديم مساعدات عاجلة للدول المحاذية لحدود أوكرانيا، للتمكن من الاستمرار باستقبال اللاجئين.
لعل مستوى التعاطف وردّات الفعل الإنسانية سواء من دول جوار أوكرانيا أو من دول أوروبا الغربية كان رائعاً، بل يمكن الذهاب إلى أنه شعور إنساني جمعي ينمّ عن درجة عالية من الحس الإنساني نحو التعاطف مع ضحايا الحروب والكوارث، ولا يضير هذا التعاطف ولا تنقص من قيمته المواقف السياسية لتلك الدول، فسواء كانت مواقف الدول الغربية مناهضة لروسيا أم لا، فإن قضية الضحايا واللاجئين ينبغي ألّا تخرج من سياقها الإنساني، ولكن يبدو أن هذا النزوع الغربي من التعاطف مع ضحايا حرب بوتين بدا مغيظاً واستفزازياً للتيار (الإسلاموي الشعبوي) الذي سرعان ما انبرت أقلام وأصوات بعض دعاته ومنظّريه لتقزيم هذا النزوع الإنساني وإفراغه من محتواه، بل والتشويش عليه، وبدأ البعض منهم يتصيّد موقفاً لمراسل قناة تلفزيونية عزا اهتمام الغرب باللاجيئن الأوكرانيين إلى لون عيونهم الزرقاء أو بشرتهم البيضاء، في محاولة لإظهار جانب عنصري وراء هذا التعاطف، ومنهم من أرجع مبلغ التضامن الأوروبي إلى أسباب دينية، مؤكِّداً استبعاد أي شكل من أشكال التضامن لولا كون سكان أوكرانيا مسيحيين، أو ربما لدى البعض الآخر أوروبيين، ثم ما يلبث هؤلاء الدعاة والمنظرون الإسلاميون أن يبدؤوا بنبش الماضي لاستعراض تاريخ السياسات الاستعمارية الغربية وما ارتكبه الغرب من فظائع بحق المسلمين والعرب، في مسعى واضح نحو عدم التمييز بين السياسات الغربية ذات الارتباط الوثيق بالمصالح، وبين منظومة القيم وحقوق الإنسان التي ما تزال في حالة صراع مع الحكومات حتى في الدول الغربية ذاتها، ولعل ما لا يريد الإسلاميون الوقوف عنده هو أن العنصرية – قومية أو دينية أو مناطقية – كنزعة منافية لقيم الكائن البشري لم تكن قدراً مقدوراً على أمة أو شعب أو جماعة بعينها، بل هي موجودة وبكافة أشكالها لدى جميع الأمم، وإن كانت بنسبٍ متفاوتة، وهذا ما يجعل من مقاومتها هدفاً مشروعاً ومشتركاً لدى جميع الشعوب، بل ربما باتت مقاومة العنصرية بشتى أشكالها شكلاً من الأشكال النضالية التي لا تظهر سوى الهمّ الإنساني المشترك بعيداً عن النوازع الإيديولوجية وتداعياتها السياسية، وهذا ما يوجب على الجميع، وعلى وجه الخصوص الشعوب المنكوبة، ونحن السوريون في طليعتها، العمل على تعزيز أيّ مسعى يتجلى فيه نشاط الضمير وأولوية قيم الحق والإنصاف ونصرة المظلوم، وليس المبادرة أو الاستعجال نحو تغليف المواقف الإنسانية بلحاف المظلوميات سواء أكانت حقيقية أم مُتَوَهّمة.
بالعودة إلى ما يمكن افتراضه أسباباً دينية أو قومية تقف وراء التضامن الغربي مع ضحايا الحرب في أوكرانيا، يمكن توجيه السؤال للإسلامويين أنفسهم: ما المانع من تضامن المرء مع أبناء دينه أو قومه، طالما أن هذا التضامن ليس على حساب الآخرين؟ ألم تكن هذه الفكرة، هي من أهم محدّدات النشاط الحركي لقوى الإسلام السياسي، أعني مقولة (من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم)؟ أم أن اهتمام المسلمين بشؤون بعضهم بعضاً لا يجوز لغير المسلمين؟ إن كان الأمر كذلك فهذه هي العنصرية بذاتها، ثم أين المشكلة في أن يكون تعاطف المرء قائماً بينه وبين أبناء جلدته أو قومه، وبخاصة إن كان قوامه الجانب الإنساني و لم يكن مشروطاً بالانتقاص من الآخرين أو الاعتداء على حقوقهم؟ ألم يكن يتمنى ملايين السوريين الذي نزحوا من ديارهم أن تفتح لهم الدول العربية أبوابها وتستقبلهم بحفاوة تشبه حفاوة الأوربيين بنازحي أوكرانيا؟ ألم يكن هذا الخيار العربي – لو أنه حصل بالفعل – السبيل البديل عن مغامرة ركوب البحار والمجازفة بالأرواح والوقوع في أفخاخ تجار البشر وسماسرة المعابر والحدود؟ وكم عدد الدول الإسلامية (باستثناء تركيا التي يقيم فيها ما يقارب أربعة ملايين لاجئ سوري تحت نظام الحماية المؤقتة) أو العربية التي شرعت أبوابها أمام اللاجئين السوريين وعاملتهم معاملة تليق بالحد الأدنى من كرامتهم؟ ربما لو تتبعنا سلوك بعض الحكومات العربية حيال لاجئي سوريا لكانت الحقائق جدّ جارحة.
ما هو جدّ راجح، أن المشكلة لا تكمن في اختلاف الموقف من العنصرية بين البشر، بقدر ما تكمن في الخطاب الإسلاموي الشعبوي ذاته، هذا الخطاب الذي يرفض الاتّساق في منظومة القيم الإنسانية إن لم يكن هو منتجها أو القابض على رقبتها ليجعلها خادمة لمصلحته فحسب، وربما لهذا السبب، أي لعجزه عن التماهي مع جميع دعوات وظواهر التعاطف والتضامن والاحتفاء بالضحية بعيداً عن عرقها أو دينها أو مذهبها، لكونها تجسّد مشتركاً إنسانياً عابراً للهوّيات، فإنه دائم التلطّي خلف سرديات من المظلومية ذات سمة ثابتة، ومعظمها ذات منشأ تاريخي، وكذلك دائم السعي إلى تحشيد وتعبئة الرأي واستنهاض العواطف الدينية بهدف أدلجة أيّة ظاهرة لا تنسجم مع نزوعه الإيديولوجي وتطلعاته السياسية.
لعله من الضروري الإشارة إلى مفارقة قد تبدو غريبة، وهي أن عدداً لا بأس به من دعاة ومنظّري هذا التيار، هم ممّن يقيمون منذ سنوات في دول أوربية غربية، ومعظمهم حاصلون على جنسية تلك البلدان، وكذلك حاصلون على كافة حقوق المواطنة، وقد ضمنوا تعليم أبنائهم وبناتهم في الجامعات الأوروبية، وأغلب الظن، لو انتهت الحروب في بلدانهم الأصلية، وخيّرتَهم بين البقاء في أوروبا أو العودة إلى بلدانهم، لاختاروا البقاء من دون جدال أو نقاش.
حسن النيفي _ تلفزيون سوريا