خاص_سيريا بريس/ عقاب يحيى _ كاتب وروائي
ليس مبالغة اعتبار سورية من أكثر بلدان العالم شيوعاً للفساد، وعمليات الإفساد المنهّج، ووصول الحالة إلى التعميم الشامل في كل مؤسسات ودوائر الدولة، وعبر نمو مافيا أخطبوطية نهمة نهبت المال العام، وجمعت الثروات الطائلة بالوسائل غير المشروعة، وكرّست الإفقار المعمم…
هذا المسار لم يأت عفوياً، أو في سياقات طبيعية بل كان مقصوداً، وجزءاً من تركيبة نظام ظلّ همه الرئيس التأبيد في الحكم، وقولبة البشر ونخرهم من الداخل وتحويلهم إلى قطيع تسيطر عليه فئات ما فيوزية هي جزء من منظومة مدعومة ومحمية.
اليوم، وفي “مسلسل” رامي مخلوف، وأشرطته المتتابعة التي تصلح لكتابة روايات عمّا حدث ويحدث، وما تستدعيه من تحليلات مختلفة عن الأسباب والخلفيات والنتائج، فإن الحقيقة الأنصع والأشمل تتمحور حول واقع الفساد لتلك الطغمة التي حكمت سورية على مدار العقود، وسبل جمع الثروات، وحمايتها من أعلى هرم في السلطة، وتقاسم تلك الثروات فيما بين القلّة الحاكمة، ثم دخول عوامل متشعبة على الخط تقود إلى نوع من الخلاف، أو الصراع بين العصبة الحاكمة، وما يقال عن الأسباب والدوافع، وهي مختلطة، وكثيرة .
فترة الحكم التي سبقت انقلاب الأسد التفحيحي (تشرين الثاني 1970)، وبغض النظر عن أية عمليات نقد للخط الذي ساد، وللأخطاء التي وقعت، فالأكيد أن تلك المرحلة اتسمت بتغلب المبدئية، والإيمان بالخط الوطني وبناء دولة وطنية مستقلة على أية اعتبارات ذاتية، وقد اتصفت قيادة تلك المرحلة بنظافة اليد، وبمحاربة بعض مظاهر الفساد التي كانت جدّ محدودة، وغير بارزة مطلقاً. على العكس فإن عدد اللصوص، والانتهازيين كان يعدّ على الأصابع، وكانوا منبوذين سياسياً وأخلاقياً واجتماعيا، لكن، ومع انقلاب الأسد حدث انقلاب شامل في القيم والأخلاق والمبادئ بشكل منهّج ومدروس لتشكيل” عجينة” أو توليفة سهلة القيادة، غارقة في المصالح الخاصة، فأطلق العنان لعمليات الفساد المبرمج، وصولاً إلى ما تعانية بلادنا هذه الأيام .
أذكر بهذه المناسبة حادثة ذات دلالة مباشرة على طبيعة حافظ الأسد وتوجهاته حين اتخذنا موقفاً معارضاً لانقلابه، وعمليات اللملمة التي فعلها، أنه قال في حديث خاص : أنه لن يكون كالسابقين الذين كانوا متشددين مع الناس، و” خلّي الناس تعيش”، أي إطلاق العنان للانتهازية والفساد، وكان الشعار الذي أطلقه في سنوات حكمه الأولى ” الحزب هو الشعب والشعب هو الحزب” وفتح تنظيم الحزب على دخول مئات، بل ملايين المنتسبين بداية التطبيق العملي لسياسة الإفساد المنظّم .
عبر هذه السياسة، وانتقال رموز السلطة من قبول الهدايا وبعض العمولات على عملية التسهيل والتمرير إلى مرحلة المشاركة مع الطبقة التجارية الجديدة الناهضة، ثم تحويل كثيرها إلى توابع للأخطبوط الجديد المتغوّل في كل مناحي الاقتصاد والحياة السياسية، كان ذلك يمثل مرحلة الانتقال الفعلي التي تمكن عصابة السلطة من الإمساك بمفاصل الاقتصاد والدولة، وكان الأقربون من العائلة والحاشية هم الأذرع الأساس لعملية التحول تلك، فبرزت ظاهرة رفعت الأسد بملياراته ووضع يده على مرافق حيوية في التجارة والاقتصاد، وظهور عدد من رموز النظام كأصحاب مليارات وشركات تجارة واسعة النطاق .
ورغم كل التعقيدات التي رافقت ما يعرف بالخلاف بين رفعت الأسد وبقية العصبة الحاكمة، وتلك التسوية التي حصلت بخروج رفعت من سورية، إلا أن مليارات الدولارات ظلت مصانة ومحمية مما كان يفتح المجال لاعتبار خروجه صفقة متفق عليها لإدارة أموال وأعمال العائلة.
بعد وفاة الطاغية الأكبر حدثت مناقلة (جزئية) في قيادات ورموز الفساد بانتقالها من بيت الأسد إلى آل مخلوف وبعض الأقرباء لجهتهم بتأثير مباشر وقوي من أنيسة مخلوف زوجة حافظ، واعتلى ركب الفساد محمد مخلوف وبيت شاليش، وصولاً إلى بروز ظاهرة رامي مخلوف الذي مكّنه الوريث المفروض بشار الأسد من التحوّل بزمن قصير للصعود كالصاروخ العابر لسورية إلى مجموعة من الأنشطة الحيوية داخل سورية وخارجها، وبما يشكل امبراطورية حقيقة تضع يدها على أهم جوانب الاقتصاد السوري، بالتشارك مع (ابن العمة ـ بشار، وأخوته)..
اليوم ونتيجة مفاعيل متداخلة يظهر الصراع إلى العلن بين رامي وبشار، وكلّ منهما يحاول استخدام ما لديه من وسائل لمواجهة الآخر، أو وضع اليد على تلك المؤسسات والأموال المليارية في حين أن أغلبية الشعب السوري انتقلت إلى مادون خطّ الفقر بفعل سياسات النظام، وعمليات النهب المنظمة .
هناك من يعيد الأسباب إلى (موقف، أو تحريض روسي) ترافق مع قيام جهات إعلامية روسية نافذة وقريبة من الرئيس الروسي بفتح بعض ملفات النظام عموماً، ورأسه بوجه الخصوص وبشكل ملفت يتناول مستوى الفساد المعمم، وفشل الأسد في مواجهة التحديات، وعلاقته مع إيران، وبما يعني أن روسيا قد ترفع الغطاء عنه بحثاً عن بديل مناسب، وهناك من يركّز على الصراع القائم داخل العصبة الحاكمة بين رامي وآل مخلوف ومن يواليهم، وبين الأخ ماهر الشرس، ثم زوجة بشار وفريقها الملتفّ حولها بتأييد من زوجها، وحاجة الاقتصاد المنهار إلى مليارات الدولارات لإنقاذ النظام من كارثة محققة..
وإذا كان من الصعب القطع بحقيقة هذا الخلاف، وخلفياته، ومآلاته، ومدى علاقته بالصراع أو الخلاف بين النفوذين الروسي والإيراني، وبمستقبل النظام السوري ورأسه، فإن ما يحدث يكشف علانية مستوى الفساد وعمليات النهب التي جرت عبر العقود، والتي كان النظام الحامي الأساس لها، والمستفيد الأول منها.