“النساء والأطفال (ذكوراً وإناثاً) هنّ الفئات الأكثر ضعفاً وهشاشة خلال أي نوع من الأزمات وخاصة خلال النزاعات المسلحة”. دائماً ما تتردّد هذه المقولة بصياغات مختلفة على لسان العاملين والعاملات في المجال الإنساني.
منذ عقود، تُشكّل الأزمات الإنسانية العنوان الرئيسي لأخبار البلدان العربية، بلدان لم تكن النساء والفتيات فيها يوماً على سلّم أولويات الحكومات، بل على العكس، كان ولا يزال يُمارَس التمييز ضدّهنّ عبر قوانين وممارسات أدّت غالباً إلى تعرضهنّ للعنف والقتل، إضافة إلى إقصائهنّ عن مواقع اتخاذ القرار.
عندما زرتُ معهد الأصفري للمجتمع المدني والمواطنة في الجامعة الأمريكية في بيروت قبل أيام، لأستمع إلى ما سيُقال في ندوة بعنوان “التأثير غير المتكافىء للأزمة السورية: مقاربة الإصلاحات من منظور نسوي” والتي تقارب تأثير الأزمة السورية على النساء والفتيات السوريات، سواءً داخل سوريا أو في بلدان اللجوء، لم أستغرب ما رَوَته مجموعة من النسويات عن التمييز والتعنيف الممارَس على النساء على كافة المستويات.
ولكن اللافت طبعاً هو حجم الانتهاكات الكبير، في وقت لا مكان للمحاسبة: من جرائم العنف الجنسي داخل سوريا والاعتقال والإخفاء القسري، إلى التزويج المبكر للفتيات والإتجار بالبشر عبر إجبار كثيرات على العمل في الدعارة داخل بلدان اللجوء، وصولاً إلى التمييز والتعنيف الكبيرين ضد أبناء مجتمع الميم… تتعدّد الممارسات القمعية ونتيجتها واحدة: نساء وفتيات وعابرات سوريات يعانين للبقاء على قيد الحياة وحماية أنفسهنّ في بلدان لا تنفك تعذبهنّ في أوقات السلم والحرب.
الأزمة اللبنانية تزيد هشاشة اللاجئات
“الاغتصاب هو سمة بارزة في الحرب السورية”، بحسب تقرير لجنة الإنقاذ الدولية IRC، وهي هيئة تقوم بمساعدة مَن مزقت الصراعات والكوارث نمط حياتهم. وهذا ما أكدته النسويات اللواتي تحاورن خلال اللقاء، محاوِلات إبراز أصوات النساء العاملات في الصفوف الأمامية واللواتي يسعين جاهدات ليس فقط إلى نقل الصورة ولكن إلى تقديم مراجعات نقدية مستمرة، حرصاً على النساء والفتيات أنفسهنّ، ولخلق مساحات للتضامن النسوي العابر للدول والذي من خلاله يمكن حشد الجهود نحو التغيير الإيجابي.
العنف الجنسي تجاوز حدود سوريا إلى بلدان اللجوء. “اللاجئات السوريات في لبنان يتعرضن للعنف الجنسي وخاصة خلال ممارستهنّ أعمالاً يحصلن منها على أجور زهيدة، وهنّ غير قادرات على حماية أنفسهنّ أو الوصول إلى العدالة”، تقول رولا بغدادي، المديرة تنفيذية لمنظمة “دولتي”، وهي مؤسسة تسعى إلى “دعم المجتمع المدني وتمكينه من المشاركة الفاعلة في الانتقال بسوريا إلى دولة ديمقراطية عادلة”.
تشير بغدادي إلى أنه “بعد سنوات من الحرب واللجوء، وعوضاً عن الحديث عن تصحيح مسارات، نحن للأسف نتحدّث اليوم في نفس القضايا التي لا زالت تتكرّر ضد النساء وخاصة العنف والتمييز”، مضيفة: “هناك عدد هائل من التقارير التي تتحدّث بشكل مفصّل عمّا تواجهه النساء اللاجئات والتي لا يتمّ وضعها ضمن السياق. مثلاً: يرزح لبنان اليوم تحت انهيار اقتصادي غير مشهود سابقاً في العالم، ويعاني اللبنانيون/ات كثيراً من هذا الانهيار، فما بالك باللاجئات السوريات؟ ولكن أين المجتمع الدولي؟ وأين المنظمات الدولية التي لم تقم بأية إجراءات خاصة باللاجئين/ات؟ نحن نرى آثار هذه الأزمة بشكل واضح على اللاجئات غير القادرات حتى على الوصول إلى العناية الصحية”.
عنف مشترك في أماكن متعددة
تتشابه أنواع العنف التي تمارَس ضد الفتيات السوريات داخل وخارج سوريا، ولعلّ أبرزها في لبنان “التزويج المبكر”. تقول الباحثة في معهد الأصفري كارلا عقيل “إن النساء والفتيات اللاجئات هنّ من الفئات الأكثر تهميشاً في لبنان، ولكن معاناتهنّ تضاعفت اليوم بسبب الأزمات ككوفيد-19 والأزمة الاقتصادية، ما أدّى إلى خسارة العديد من اللاجئين لوظائفهم”.
من جرائم العنف الجنسي والاعتقال والإخفاء القسري في سوريا، إلى التزويج المبكر للفتيات، وإجبار كثيرات على العمل في الدعارة في بلدان اللجوء… تتعدّد الممارسات القمعية ضد النساء السوريات
وتلفت إلى أن “تسع من أصل كل عشر عائلات سورية لاجئة أصبحت تحت خطّ الفقر في لبنان. وهم يحاولون اليوم إعطاء الأولوية لتأمين الحاجات الأساسية للعائلة والتخفيف من أعباء الأزمة الاقتصادية، وأدى ذلك إلى حرمان الأطفال من التعليم وخصوصاً الفتيات”.
في ظل كل هذه الأعباء، تتابع عقيل، “لجأت العديد من العائلات إلى تزويج فتياتها مبكراً في محاولة للتكيّف مع الظروف المستجدة وكحلّ لتخفيف الأعباء عن العائلة ولضمان تأمين حاجات طفلاتهنّ الأساسية”.
وطبعاً، يخلق ذلك أزمة كبيرة في حياة الطفلات المزوّجات. “التزويج المبكر يضع الطفلات في خطر التعرّض للعنف، إذ تشير الإحصاءات إلى أن الطفلات وخصوصاً من يُزوّجنَ وهنّ تحت الـ15 سنة يكنّ أكثر عرضة للتعنيف الزوجي بنسبة 50%، عوضاً عن العنف الصحي والنفسي الذي يتعرضن له”، تقول عقيل.
جذور العنف
ينسحب العنف والتمييز ضد النساء والفتيات أيضاً على أبناء مجتمع الميم الذين يُعتبرون من أكثر الفئات تهميشاً. بحسب تقرير لمنظمة أوكسفام في لبنان، نشر عام 2021 تحت عنوان “مجتمع الكوير في أزمة: صدمة، انعدام مساواة وهشاشة”، 66% من عيّنة البحث المشكّلة من لبنانيين ولاجئين سوريين أجابوا بأنهم لم يمارسوا أي نشاط اقتصادي، من بينهم 70% قالوا إنهم خسروا عملهم عام 2020، مقارنة مع نسبة بطالة كانت تصل إلى 40% بين القوى العاملة في البلد.
يضاف إلى هذه المعاناة تعرضهم لـ”الهوموفبيا” و”الترانسفوبيا” كما تقول الناشطة النسوية السورية رهام قنوط الرفاعي. وتشير إلى عدد اللاجئين/ات من أبناء مجتمع الميم يعانون من ترهيب كبير خاصة داخل مخيمات اللجوء، وتؤكّد أنه “عندما نتحدّث عن تهميش النساء، يجب أن يشمل ذلك كل النساء وهنا نعني أيضاً المتحولات جنسيّاً اللواتي يتعرّضن لكافة أنواع التمييز، وللأسف ليست هناك مآوي آمنة لهنّ وهنّ لسنَ جزءاً من الخطط أو الخدمات المقدمة للنساء على الرغم من تعرضهنّ للعنف والاغتصاب على يد شركائهنّ”.
“لجأت العديد من العائلات السورية إلى تزويج فتياتها مبكراً في محاولة للتكيّف مع الظروف المستجدة وكحلّ لتخفيف الأعباء عن العائلة ولضمان تأمين حاجات طفلاتهنّ الأساسية”
خلال الحلقة النقاشية التي تُعتبر جزءاً من عمل معهد الأصفري للربط بين العمل الأكاديمي والنشاط المدني، قالت منى زين الدين، مديرة البرامج في منظمة “النساء الآن لأجل التنمية”، وهي منظمة تعمل على تمكين النساء من المشاركة في بناء سوريا جديدة تحترم وتحمي الحقوق المتساوية لجميع مواطنيها، إن تجارب النساء في الحروب، وتغيّر الأدوار الجندرية والحديث عن دور النساء، يختلف من امرأة إلى أخرى.
تلفت إلى أنه “عندما نتحدّث عن النساء المحررات من السجون والمعتقلات، هناك نظرة مسبقة أنهن تعرّضن للاغتصاب، حتى لو أن ذلك لم يحصل، ما يعرّضهن للرفض من قبل عائلاتهن والمجتمع”.
برأيها، “عندما نتحدّث عن العنف وجذوره يجب أن نحلل تقاطعاته ونتائجه كي نفهم الأمور جيداً. وفهم كل هذه التجارب، تحليلها، والبناء عليها لن يتم إلا بإنتاج المزيد من المعرفة النسوية”.
وتؤكد علا رمضان، المؤسِّسة والمديرة التنفيذية لمنظمة “بدائل”، وهي منظمة تهتم بدعم وتعزيز المجتمع المدني السوري الناشئ، أن “الحركة النسوية السورية حققت الكثير من المكتسبات بعد عام 2011، وخصوصاً لناحية الإنتاج المعرفي النسوي، ولكن يبقى دعم هذا الإنتاج من التحديات الأساسية، إضافة إلى محاولة إنتاج المزيد من المعرفة باللغة العربية”.
الحديث عن النساء السوريات، وتجاربهنّ، ومعاناتهنّ، لا يمكن أن يحصل بمعزل عن مقاربة نسويّة واضحة لا تفصل أبداً بين العام والخاص، بين السياسي والشخصي.
لا يمكن الحديث مثلاً عن حقوق النساء والفتيات بمعزل عن الحديث عن عدالة انتقالية تحرص على محاسبة كل مَن قام بقتل النساء، استغلالهن، وتعنيفهنّ، أو بمعزل عن الحديث عن التقاطعية ما بين النظام الأبوي، الاقتصادي، وطبعاً أثر التسلّح وكافة الأزمات الاجتماعية عليهنّ.
وكل ذلك ينبغي أن يترافق مع إنتاج معرفة توثيقية لتموضعات النساء الجديدة ضمن المجتمع وثورتهنّ على كل ما هو موروث من قوانين تمييزية أو عادات متناقلة.
علياء عواضة _ رصيف 22