تتساءل الكاتبة الإنكليزية فرجينيا وولف في كتابها (غرفة تخص المرء وحده) أنَّه لو كان للكاتب الإنكليزي الأشهر وليم شكسبير أختاً تماثله في الذكاء والعبقرية هل كانت ستحظى بشهرة أخيها التي جابت الآفاق؟ أم أنَّها ستعاني من العزلة أو الجنون أو حتى الانتحار نتيجة كَبْت موهبتها أو تجاهلها؟ وما العوامل الاجتماعية والثقافية التي تجعل من النساء والرجال مبدعين على حدٍّ سواء؟ وهل هناك فوارق بين هذه العوامل؟
في ظلِّ هذا التساؤل الإشكالي لا بدَّ لنا من الإشارة الى أنَّ عملية الإبداع هذه تختلف عن العمل الذي تقوم به المرأة بسبب الدافع الاقتصادي، أي نحن نتكلم على الإبداع من أجل الإبداع نفسه، لأنَّنا لا نريد أن نجيب على سؤال لماذا تعمل المرأة؟ بل نريد أن نعرف كيف تحقق المرأة ذاتها في العالم الإبداعي الذي بات مزدحماً بأسماء كثيرة، أسماء لمع نجمها في سماء الإبداع وأغلبها تنتمي لجنس الذكور.
المرأة كما الرجل تحتاج لأن يكون لها حياتها الاجتماعية خارج حدود منزلها، تحتاج لأن تبني علاقات جديدة مع الناس والأشياء بعيداً عن إطار أسرتها وبيتها لكي تغني تجربتها الإبداعية
المشكلة، في الحقيقة، تبرز من أكثر من جهة، ولكن التحدي بدأ يكبر يوماً بعد يوم، والمرأة تحاول أن تثبت ذاتها وإبداعها وحضورها أمام الرجل أولاً، والقوانين الاجتماعية والثقافية الذكورية ثانياً، إذ ما فتأت هذه القوانين تميز بين الجنسين، وتعطي الرجل أفضلية الإشارات الخضراء، ولا ينطبق هذا الكلام على المجتمعات العربية فحسب، بل أيضاً يمكن أن نراها في بعض المجتمعات الغربية التي تزيد من العوائق التي تحدُّ من موهبة المرأة وتكثِّف مسؤولياتها، بمعنى غياب الشروط الاجتماعية والثقافية التي يمكن لها أن تبلور موهبتها، فالمرأة كما الرجل تحتاج لأن يكون لها حياتها الاجتماعية خارج حدود منزلها، تحتاج لأن تبني علاقات جديدة مع الناس والأشياء بعيداً عن إطار أسرتها وبيتها لكي تغني تجربتها الإبداعية، هذه التجربة التي تغني مخزونها الثقافي وتجعله أكثر تنوعاً، فالتجربة الشخصية الفردية محدودة جداً، ولا يمكن أن تخلق إبداعاً مستمراً ومتواصلاً، بمعنى أن فقر التجربة الإبداعية يجعل حياة الإبداع ذات نَفَس قصير.
وعندما يمتهن الرجل (الزوج) مهنة الكتابة فإنَّ حياته كلها تدور حول كتابته وإبداعه، وتكون الكتابة هي مصدر رزقه الذي يعتاش منه، ومن هنا فإنَّه لا توجد مسؤوليات أخرى تعيق عملية الإبداع عنده، فهو متفرِّغ تماماً للكتابة التي تحقِّق له المجد والشهرة، أمَّا المرأة (الزوجة) فإنَّها تتحمَّل مسؤولياتها المنزلية بالإضافة إلى مسؤولياتها بوصفها أمَّاً، ومن ثمَّ فإنَّها تبدأ تهتم بالإبداع، وبذلك يصبح في المرتبة الثانية بعد مهمتها الأولى (ربة المنزل)، المشكلة هي في الطاقة المتبقة لديها بعد تلك الأعباء، وكذلك في مساحة الوقت الذي سيتبقى لها بعد ذلك لكي تختلي فيه بنفسها من أجل الإبداع بعد أن تكون أعمال المنزل وتربية الأطفال قد أنهكتها تماماً، ومن هنا جاء عنوان كتاب فرجينيا (غرفة تخص المرء وحده) أي تلك الخصوصية التي يجب أن تحظى بها المرأة بعيداً عن المسؤوليات.
وهنا نتساءل: هل تتنكَّر المرأة لأمومتها من أجل إبداعها؟ أي هل لكي تصبح مبدعة يجب عليها أن تتخلَّى عن رحمها؟ الكثيرات من المبدعات والكاتبات عبر التاريخ اخترن الكتابة على أن يكنَّ أمهات؟ والكثيرات أيضاً صارعن بين اختيارهن أن يكنَّ أمهات وبين إبداعهن، ونرى ذلك في رواية (حليب أسود) التي تتحدث فيها الكاتبة التركية إليف شافاق عن تجربتها وعن تجارب الكثيرات من النسويات في الكتابة والأمومة، وكيف كان ذلك أكبر تحدٍّ بالنسبة لها، إذ استطاعت إليف أن تغير قناعاتها التي بنتها طوال حياتها في رفضها للزواج والأمومة والتفرُّغ فقط للكتابة.
الكثير من النسويات ومنهن الكاتبة الفرنسية سيمون دي بوفوار يرفضن النظام الأسري الأبوي جملة وتفصيلاً، ويطالبن بحياة مستقلة للمرأة بعيداً عن السلطة الذكورية
هنا يبرز تحدٍّ جديد تواجهه المرأة وهو الخوف من الفشل لو اختارت أن تجمع بين كونها مبدعة وأمَّاً، هل ستكون مبدعة على سوية عالية ولها من الشهرة والمعجبين ما لها، وفي الوقت ذاته هل يمكن تكون أمَّاً مميزة لأولادها، وقدوة حقيقية لهم، هذا التحدي جعلها تبذل الكثير من الجهد من أجل أن تتجاوز فكرة الفشل التي تؤرقها، وأن تكون ناجحة في كلِّ الأدوار التي تؤديها، وعلى سوية واحدة.
الكثير من النسويات ومنهن الكاتبة الفرنسية سيمون دي بوفوار يرفضن النظام الأسري الأبوي جملة وتفصيلاً، ويطالبن بحياة مستقلة للمرأة بعيداً عن السلطة الذكورية، تقول سيمون بأنَّ المرأة “ستظل مستعبدة حتى يتمَّ القضاء على خرافة الأسرة وخرافة الأمومة” هذا الاستعباد برأيها يطال جسدها من خلال تعرضها للحمل والولادة والإرضاع، ويطال عقلها الذي سيبتعد تدريجياً عن الإبداع، وطرحت النسويات بدائل موازية لإشباع عاطفة الأمومة عند المرأة مثل التبني أو من خلال تأجير الأرحام وغيرها من الحلول التي تجعل المرأة أكثر تفرغاً لحياتها الشخصية، ومنها حياتها الإبداعية التي هي موضوع مقالنا.
أخيراً أخبركم بجواب فرجينيا وولف عن السؤال الذي طرحته في بداية المقال، إنَّها تقول (لا) إنَّ الموهبة التي قد تحظى بها هذه الأخت لن تخولها أن تقتحم عالم الشهرة الذي اقتحمه شكسبير؛ لأنَّ هناك أنظمة وقوانين خاصة بكل من الرجال والنساء، والعقبات التي تعترض المرأة هي أكثر بكثير من العقبات التي تعترض الرجل، وتبقى هذه المشكلة مطروحة مادامت قوانين المجتمع تحتفظ بصرامتها تجاه المرأة التي لا تزال بنظر المجتمع ربة منزل أولاً.
فاطمة عبود _ تلفزيون سوريا