اشتعلت ثورة آذار 2011 في سوريا بوقود الشباب السوري ذكوراً وإناثاً، ممّن تطلّعوا إلى مستقبل أفضل للبلاد، وتصاعد وعيهم السياسي نتيجة الأحداث المحلية والإقليمية وإتاحة الإنترنت. فتجمع الشباب ضمن شبكات عفوية تجرّأت على الهتاف بمطالب الحرية والكرامة ومكافحة الفساد، وتطورت سريعاً إلى حراك شعبي عارم يطالب بالتغيير السلمي، قابله نظام الأسد بتصعيد عسكري زجّ فيه الجيش بمواجهة الشعب الثائر. ما أوجد حالة من التعاطف الجمعي أججت الفعل السياسي لدى شرائح شعبية مختلفة ونقلت الحراك الثوري إلى انتفاضة شعبية تطالب بإسقاط النظام، وتتمخض عن احتياجات إنسانية وحقوقية لا متناهية، كان للنساء فيها الدور الأكبر.
انخراط المرأة في الحراك ينطوي على أخطار كثيرة
كان انخراط المرأة ضمن أي حراك معارض لنظام الأسد ينطوي على أخطار كثيرة، كرّستها قصص التعذيب والتغييب القسري والقتل، التي لم تحُل قبضة الأجهزة الأمنية دون تناقلها عبر المجالس الضيقة، تجاه أي انتقاد للحكم دون تفريق بين ذكر أو أنثى، شيخ أو طفل. ولم تكن قضية طلّ الملوحي ذات التسعة عشر ربيعاً من تلك الفترة ببعيدة، كمثال على تربّص النظام بأصحاب الرأي السياسي الحرّ. ناهيك عن أخطار إضافية، مما يُتهامس به مجتمعياً حول فظائع الاعتداء الجسدي والجنسي الذي تتعرض له الأنثى حال اعتقالها، وربط الوعي الجمعي بين ذلك وبين “شرف العائلة أو العشيرة” لدى العائلات والمناطق المحافِظة عموماً؛ والشريحة المنعزلة عن الشأن العام والسياسة خصوصاً. مما كان يحمل المرأة تبعات مجتمعية قاسية تطول مستقبلها من نواحٍ مختلفة كالزواج والعمل، وقد تصل إلى حد نبذها من العائلة ككل.
رفض جزئي من المجتمع لانخراط المرأة في الشأن العام
وفضلاً عن الاعتقال، لم يكن جلّ المجتمع السوري متقبلاً لانخراط المرأة في الشأن العام بعد، مما ألقى على الناشطات تحدياً وجودياً بالحضور والكفاءة، ضمن تجمعات شعبية ما زالت محكومة – رغم ثوريتها- بموروثات مجتمعية تنظر إلى عمل المرأة خارج المنزل من زاوية جنسانية تنحصر بمخالطتها للرجال، أو كمنافسة للرجل تنتقص من أنوثتها وأهليتها للزواج والأمومة. في حين كان الأمر مختلفا من وجهة نظر النساء، كما تقول إحدى ناشطات دمشق: “خلال الثورة أدركت كيف يكون للأنثى حضور وصوت ورأي، بخلاف بيئتي التي علمتني أن أخفي نفسي كوني بنتاً وكأني غير موجودة ودون رأي. خرجت بالمظاهرات أهتف عالياً بالكرامة والحرية وضد الظلم والاستبداد، كان ذلك أشبه بالخيال”.
مع اتّساع النشاط الثوري، كان على أكثر الناشطات من بناتٍ أو أخواتٍ أو زوجات، التعاطي مع ممانعة أهلهنّ للانخراط، في ظل مخاوفهم التي تتعدى احتمالات التنكيل بالمعارضين، إلى امتداد البطش للعائلة ككل. كاعتقال أو قتل ذوي الناشطات من الشباب، أو تضييق معيشي بمصادرة أملاك العائلة أو فصل من العمل أو التعليم، كنوع من الضغط على الأهل لردع ابنتهم أو كعقاب جماعي لهم. ما جعل جلّ الناشطات ينخرطن أكثر فأكثر تدريجياً دون أي علم لذويهنّ، تحاشياً للاصطدام معهم أو رأفةً بهم من المهم أو رأفةً بهم من المخاوف الأمنية.أما شريحة المنتميات إلى بعض الجماعات الدينية، التي نأت بنفسها عن اتخاذ موقف سياسي واضح، فقد شكل قرار الانخراط في بداية الاحتجاجات تحدياً حقيقياً لهنّ. نظراً للسلطة التربوية التي كانت تحظى بها معظم تلك الجماعات على طالباتها بما يتعدى المشورة في كثير من الأحيان إلى التدخل في قراراتهنّ الشخصية كالزواج ومجال العمل أو الدراسة. مما جعلهنّ في خيار بين “طاعة” الجماعة التي طالما حرصن على الإخلاص لها، وبين الانخراط في الحراك السلمي الذي نظرن إليه كجزء لا يتجزأ من واجبهن الديني والوطني.
أخيراً وليس آخراً، اتخذ تحدي الانخراط شكلاً مختلفاً لدى بعض الناشطات المنحدرات من عائلات ذوات خلفية سياسية واهتمام بالشأن العام، بالنظر إلى أن موقفهنّ المناهض للنظام هو جزء من موقف العائلة ككل. سواء كنّ من خلفيات “علمانية، ليبرالية” تُعلي مسؤولية وتبعات الموقف السياسي على فلسفة المحافظة المجتمعية، أو من خلفيات “دينية” تعتبر الموقف السياسي جزءاً لا يتجزأ من المنهج الديني.
بيد أن قسماً لا بأس به من هذه الشريحة لم ينخرط بالضرورة في المرحلة الأولى من الاحتجاجات، مما يرجع إلى قناعة العائلة بافتقار السوريين إلى تنظيم سياسي وطني ذي قبول شعبي بقيادة قادرة على تحقيق التغيير المنشود، والنظر بالتالي إلى جدوى الحراك الثوري وتوقيته وطريقة اشتعاله بعين الريبة، على الرغم من التأييد المطلق لأحقية المطالب الشعبية وإرادة التغيير والإصلاح.
عوامل أخرى لعبت دوراً في قرار النساء بالانخراط مع الثورة
إلى جانب ما سبق، لعبت عوامل أخرى دوراً في قرار النساء بالانخراط مع الثورة من حيث التوقيت وشكل الانخراط. حيث يلحظ أثر الوضع العائلي على استقلال قرار المطلقة أو الأرملة نسبياً، مقارنةً بالمتزوجات والعازبات. كما يلحظ أثر نظرة العائلة تجاه عمل الأنثى وانخراطها بالشأن العام على استقلال قرارها. مما يرجع للوعي الجمعي الذي عمل النظام على تشكيله خلال عقود، والذي يربط بين عمل المرأة بالشأن العام ومناهضتها للظلم من جهة؛ وبين تمردها على العادات والتقاليد من جهة أخرى، كما يربط بين الاهتمام السياسي من جهة وبين الحرية الجسدية للمرأة تحت شعار “التحرر” من جهة أخرى.
في حين أن عواملَ أخرى كالعمر والمستوى المعيشي والتحصيل العلمي والحي والمذهب أو الانتماء الإيديولوجي، لم يكن لها دور جوهري في توقيت الانخراط الثوري للنساء أو شكله. على الرغم من تأثير تلك العوامل على طبيعة الدور ضمن النشاط الثوري نفسه.
اعتمدت تجمعات النساء في بداياتها على روابط الجامعة أو الاهتمام الفكري أو المهني. وعلى عكس الرجال، تجنبت في معظمها روابط الحي أو العائلة خوفاً من الوشاية عليهنّ أو الاصطدام مع مخاوف ذويهن من الذكور أو تحميل عوائلهنّ جريرة معارضة نظام الأسد. وبرغم اعتبارات الفوارق المجتمعية والإيديولوجية التي كانت حاضرة في المجتمع السوري قبل الثورة، وحد الاصطفاف الثوري النساء ضد نظام الأسد متجاوزاً كل اعتبار آخر، خصوصاً في ظلّ صمت معظم القيادات المجتمعية والدينية عن اتخاذ موقف معلن مما يجري.
فرضت النساء مشاركتهنّ بالإصرار، ليتدرجن من التجهيز للمظاهرات إلى مهام التصوير والإعلام ومن ثم الدعم الطبي وليس انتهاءً بالعسكرة. مروراً بالمبادرات الإنسانية وتنظيم الاعتصامات وفعاليات الحراك السلمي وأدوار أخرى مكنت الحراك من الاستمرار، وأعانت حاضنته الشعبية على الصمود. وبعد أن كانت المشاركة السياسية للمرأة في سوريا مقتصرة على قلة من الشخصيات المنحدرات في الغالب من عائلات ذوات اهتمام سياسي، نقلت الثورة الكثيرات إلى حيز النشاط العام والفعل السياسي على الرغم من التحديات المقترنة به. كما أثارت الاهتمام السياسي لدى النساء ليدركن أهميته في تغيير موازين القوى. ورغم تورع الكثيرات عن ولوج العمل السياسي بذريعة تطلبه لمهارات لا يمتلكنها، أو خشية السمعة السيئة التي تقترن به من ارتهان للدول ومصالح شخصية. وجدت قلة منهنّ في الثورة فرصة للانخراط السياسي وبلورة وتطوير مهاراتهنّ، ما انعكس بمحاولاتهنّ المستمرة لخوض الممارسة السياسية بمختلف مساراتها.
مع ذلك، لم تنعكس المشاركة الفاعلة للمرأة الثائرة في القرار السياسي. حيث بقيت مشاركتها في الأجسام السياسية الناطقة باسم الثورة دون نسبة الربع في أحسن الأحوال، بما لم يتجاوز الرغبة في إعطاء انطباع بالانفتاح والحداثة، أو ملاقاة المزاج الدولي. وبينما تبعثرت البنى النسوية القديمة ما بين الانخراط الثوري والوقوف على الحياد أو حتى تأييد النظام، فإن المجموعات النسائية الشبابية المنخرطة بالحراك الثوري بدورها تبعثرت بين العمل الإنساني الإغاثي والعمل الإعلامي والتنظيمي والحقوقي، دون العمل السياسي.
- هذا المقال جزء من دراسة موسعة عن الحراك النسائي في الثورة السورية لصالح مشروع “الذاكرة السورية”
هاديا العمري _ تلفزيون سوريا