أصبح العثور على سكن في محافظة إدلب، شمال غرب سوريا، بمثابة كابوس لحوالي 2.7 مليون نسمة، بينهم 1.7 مليون نازح، يعيشون في آخر مناطق سيطرة المعارضة، التي تشهد أزمة إسكان حادة بفعل النزوح المستمر.
تعيش نصف العائلات النازحة في محافظة إدلب بمنازل أو شقق سكنية، غالباً ما تكون مستأجرة، وفقاً لتقرير تقييم الاحتياجات في سوريا. تعدّ هذه العائلات الأكثر حظاً مقارنة بعائلات استقرت في مخيمات عشوائية أو بمدارس تم تحويلها إلى ملاجئ لها، لكن هذا لا ينفي حقيقة أن المستأجرين يعانون من ظروف معيشية سيئة، ويواجهون خطر الإخلاء في ظلّ ضعف القوانين التي تنظّم سوق العقار في إدلب وتحمي حقوق المستأجرين.
مشكلة العقود
في عام واحد، استبدلت آلاء الأحمد، 30 عاماً، وهي أرملة نازحة من ريف حماة الشمالي، “أحد عشر منزلاً بسبب طمع ملّاك المنازل والمكاتب العقارية في تحصيل مزيد من العمولات ومبالغ التأمين”، كما قالت لـ”سوريا على طول”، ظناً منهم “أني أحصل على مساعدات إنسانية وكفالات مالية عن أطفالي الأيتام”.
إذ إن “عمولة المكتب العقاري تتجدد مع تجديد العقد، لذلك ترفض معظم المكاتب إبرام عقود طويلة بهدف تحصيل العمولة أكثر من مرة”، كما أوضحت لـ”سوريا على طول” ثريا العمر، النازحة من ريف حماة الشمالي أيضاً، والتي “دفعت العمولة ثلاث مرات في غضون عدة أشهر عن ثلاثة بيوت”.
وتستحق عمولة المكتب العقاري بمجرد توقيع العقد، حتى وإن لم يبق المستأجر طوال مدة العقد، وهو ما حصل مع العمر، التي دفعت 38 دولاراً أميركياً كعمولة للمكتب العقاري عن منزل استأجرته وبقيت فيه لمدة ثلاثة أسابيع فقط. هذا إضافة إلى 75 دولارً دفعتها كتأمين لمالك المنزل ويسترد في حالة خلو المأجور من أي تلف أو ضرر عند إخلائه.
عمولة المكتب العقاري تتجدد مع تجديد العقد، لذلك ترفض معظم المكاتب إبرام عقود طويلة بهدف تحصيل العمولة أكثر من مرة
تجربة مشابهة عاشتها منال السيد، وهي أم لأربعة أطفال، إذ دفعت عمولة مقدارها 100 دولار أميركي للمكتب العقاري عن ستة أشهر بدلاً من 50 دولار، لأن صاحب المكتب “رفض كتابة العقد لمدة ستة أشهر، واستبدله بعقد مدته ثلاثة أشهر قابل للتجديد”، كما قالت لـ”سوريا على طول”.
من جهته، نفى مصطفى العلي (اسم مستعار)، وهو صاحب مكتب عقاري في مدينة إدلب، مسؤولية المكاتب العقارية عن تحديد مدة عقود الإيجار، موضحاً لـ”سوريا على طول” أن “تحديد مدة العقد تكون باتفاق بين المستأجر والمالك”، فيما يكون المكتب العقاري “وسيطاً بينهما، ويحصل لقاء ذلك على عمولة مقدارها نصف الإيجار الشهري، وهي النسبة التي حددتها حكومة الإنقاذ في إدلب”.
ندرة الخيارات
مع أزمة السكن التي تشهدها مدينة إدلب، وتحديد عقود الإيجار بأشهر قليلة تعيش العائلات رحلة بحث دائم عن بدائل للسكن، خاصة وأنهم قد يتعرضون للطرد في مهلة قصيرة، وهو ما حصل مع منال السيد، التي نجحت بعد معاناة في العثور على منزل مناسب في مدينة إدلب، لكن المالك رفض تجديد العقد للمرة الثالثة، وأمرها بإخلاء المنزل مع أطفالها في منتصف الشتاء.
ووفقاً لتقييم إنساني حديث فإن 5٪ من العائلات النازحة في شمال غرب سوريا تعرضوا للطرد من منازلهم خلال الاثني عشر شهراً الماضية، وكانت عمليات الإخلاء تستهدف الأسر التي تعيلها نساء إلى حدّ ما، حيث أبلغت 8% منهن حالة إخلاء في العام الماضي.
وما يزيد معاناة المستأجرين، أن المنازل ذات الأسعار المعقولة نادرة، وغالباً ما تكون غير صالحة للسكن، فحوالي 20% من النازحين الذين يعيشون خارج مخيمات النزوح يقيمون في مبان متضررة، رغم خطورتها وانعدام الخصوصية فيها.
تعرضت 5٪ من العائلات النازحة في شمال غرب سوريا للطرد من منازلهم خلال الاثني عشر شهراً الماضية
وقد انتهى المطاف بآلاء الأحمد في منزل مدمر “جدرانه معرضة للسقوط في أية لحظة”، بحسب وصفها، معبرة عن خوفها “من تسلل لصوص إلى المنزل عبر فتحات في سقفه تسبب بها قصف سابق للنظام”، بعد أن عجزت عن إيجاد سكن مناسب بسعر معقول.
ورغم وضع المنزل، طلب مالكه من الأحمد تأميناً مالياً، وتم توقيع العقد عبر مكتب عقاري، وعليه تكبّدت دفع عمولة جديدة، إضافة إلى أنها ستدفع عمولة عقارية عند كل تجديد.
عبء ثقيل على النساء
يتشارك سكان محافظة إدلب، لا سيما النازحون، تداعيات أزمة السكن، لكن النساء، اللاتي تمثلنَ غالبية البالغين في إدلب هن الأشد تأثراً، خاصة من أصبحن معيلات لأسرهن بعد وفاة أزواجهن أو إصابتهم أو اختفائهم.
وتشعر النساء اللواتي تحدثن إلى “سوريا على طول” بأعباء نفسية، وعانين جميعاً من انهيارات عصبية وإرهاق واكتئاب نتيجة الظروف المعيشية التي تفرزها أزمة السكن. وفي ذلك قالت رشا السويد (اسم مستعار) بحزن أنها تصاب بالاكتئاب “بعد كل خطوة. ما أن أتأقلم مع المكان الجديد حتى أجد نفسي مجبرة على مغادرته”، إذ “تعاني من الاكتئاب لأسابيع، يرافقه بكاء، وضيق في التنفس، وإرهاق، وفقدان الثقة بالنفس”.
من جانبها، وجدت ثريا العمر نفسها أمام خيارات ضيقة، فحتّمت عليها دراسة أولادها في جامعة إدلب وعملها مع منظمة إنسانية في مدينة إدلب ، “البحث في المدينة فقط رغم صعوبة إيجاد سكن فيها”، ودفعها صعوبة البحث إلى “الاستغناء عن الوظيفة والدخول في أزمة اقتصادية ونفسية”.
الأطفال أيضاً، يعانون من الترحال المستمر، ويدفعون ثمناً لذلك آثاراً نفسية بسبب صدمة التنقل، كما حصل مع حليمة الشيخ، 20 عاماً، إذ فقدت الاتصال بجميع أصدقائها بعد تغيير منزلها عندما كانت في المرحلة الثانوية، فتراجع مستواها الدراسي وأصبحت “أكثر انطواءً على نفسي”، كما عبّرت لـ”سوريا على طول”.
وإذا كانت مشكلة حليمة في تغيير مدرستها بعد انتقالها إلى منزل جديد، فإن طلبة آخرين قد يضطرون إلى “المغادرة من قرية إلى أخرى كل صباح للالتحاق بالمدرسة”، ما قد يحرم بعضهم “ممن لا يملكون مصاريف التنقل، أو الفتيات اللاتي لا يُسمح لهن الخروج من القرية من دون مرافق”، بحسب هاني بابلي، منسق برنامج التعليم في منظمة تكافل الشام المحلية غير الحكومية لـ”سوريا على طول”.
حلول محدودة
بعد مرور عشر سنوات على الحرب، لا توجد حلول سكنية طويلة الأمد للنازحين في إدلب، فيما ينخفض التمويل المخصص لمشاريع الإسكان والإعمار، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن المنطقة تقع تحت إدارة حكومة الإنقاذ المدعومة من هيئة تحرير الشام، الفصيل المدرج دولياً على قائمة الإرهاب.
ومع ذلك، شهدت المنطقة في السنوات الأخيرة مبادرات إنسانية، عبر منظمات تركية غير حكومية، لبناء آلاف الوحدات السكنية الدائمة في المخيمات، وذلك بهدف تحقيق الاستقرار في المحافظة والحدّ من عبور نازحين سوريين إلى الأراضي التركية.
إضافة إلى ذلك، تمول منظمات غير حكومية في إدلب مشاريع تأهيل المساكن المتضررة، مقابل تعهد المالك بعدم زيادة الإيجار أو إخلاء المستأجرين في السنة التي تلي إعادة التأهيل، ويتم توقيع الاتفاقية مع المالك برعاية المجلس المحلي.
عمليات إعادة إعمار وتأهيل المباني المتضررة ما تزال محدودة بسبب وجود عدد لا يحصى من القضايا المرتبطة بالإسكان والأراضي والممتلكات، إذ يقيم العديد من النازحين داخلياً في ممتلكات أشخاص مشردين، إضافة إلى وجود ممتلكات تم الاستيلاء عليها بشكل قانوني من فصائل عسكرية أثناء النزاع. لذلك من مبدأ عدم إلحاق الضرر، ومنع ترسيخ التغيير الديمغرافي، تتبع معظم المنظمات الإنسانية غير الحكومية في شمال غرب سوريا إرشادات تمنعها من إجراء عمليات إعادة تأهيل طويلة الأجل.
ورغم ذلك، تشهد إدلب موجة إعمار بتمويل ذاتي من أصحاب الممتلكات، أو بدعم من مستثمرين في القطاع الخاص، ولكن هذه المشاريع لا تلبي احتياجات الفئات الأكثر ضعفاً في المجتمع.
وقالت رشا السويد “تشهد مدينة إدلب نهضة عمرانية، وهناك تشييد لأبنية شاهقة”، لكن هذا “ليس من مصلحة النازحين، لأن الأسعار مرتفعة بشكل جنوني، خاصة بعد أن أصبحت إدلب مطمعاً للجميع باعتبارها في مركز الخدمات”.
رشا عبد الرحمن وليز موفة _ سوريا على طول