هل أخفقت الثورة السورية؟ هذا السؤال يُطرح اليوم من قبل كثيرين من أنصار الثورة السورية الذين تحمّسوا لها، وأسهموا فيها، أو تفاءلوا بها، وعقدوا عليها الآمال، سواء في الداخل السوري أم خارجه.
أما الذين كانوا ضد الثورة منذ البدايات، وشككوا في أهدافها، وعملوا على إفشالها منذ البدايات، فهم يطرحون سؤالًا آخر، فحواه: هل كانت هناك ثورة أصلًا؟ فكل ما حدث هو في منظور هؤلاء محض “مؤامرة”، استهدفت الخط “المقاوم الممانع” لحكم بشار الأسد الذي “انتصر” في نهاية المطاف على جميع “المتآمرين”. وحجة هؤلاء أن بشار الأسد ما زال في الحكم، بأجهزته ومخابراته وقواته العسكرية، وهو يعيد ترتيب أوراقه مع دول عربية عدّة، بدعم من الروس والإيرانيين، ويستعدّ للعودة إلى الساحة الدولية.
وما يجمع بين المتشائمين في الفريق الأول، والمتفائلين في الفريق الثاني، أنهما يربطان بين مفهوم الثورة والاستيلاء السريع على الحكم، ومنشأ هذا التصوّر يتمثل في الدعاية التضليلية التي اعتمدتها الأنظمة العسكرية في الجمهوريات العربية التي كانت تسوّق انقلاباتها العسكرية تحت اسم الثورات، وهي الانقلابات التي تمثلت في تآمر مجموعة من الضباط على “رفاق” الأمس الذين كانوا غالبًا ما يُعدمون أو يُعتقلون حتى الموت. ولدينا في سورية مثال “ثورة 8 آذار” و “الحركة التصحيحية”.
هل أخفقت الثورة السورية؟ هذا السؤال يُطرح اليوم من قبل كثيرين من أنصار الثورة السورية الذين تحمّسوا لها، وأسهموا فيها، أو تفاءلوا بها، وعقدوا عليها الآمال، سواء في الداخل السوري أم خارجه.
أما الذين كانوا ضد الثورة منذ البدايات، وشككوا في أهدافها، وعملوا على إفشالها منذ البدايات، فهم يطرحون سؤالًا آخر، فحواه: هل كانت هناك ثورة أصلًا؟ فكل ما حدث هو في منظور هؤلاء محض “مؤامرة”، استهدفت الخط “المقاوم الممانع” لحكم بشار الأسد الذي “انتصر” في نهاية المطاف على جميع “المتآمرين”. وحجة هؤلاء أن بشار الأسد ما زال في الحكم، بأجهزته ومخابراته وقواته العسكرية، وهو يعيد ترتيب أوراقه مع دول عربية عدّة، بدعم من الروس والإيرانيين، ويستعدّ للعودة إلى الساحة الدولية.
وما يجمع بين المتشائمين في الفريق الأول، والمتفائلين في الفريق الثاني، أنهما يربطان بين مفهوم الثورة والاستيلاء السريع على الحكم، ومنشأ هذا التصوّر يتمثل في الدعاية التضليلية التي اعتمدتها الأنظمة العسكرية في الجمهوريات العربية التي كانت تسوّق انقلاباتها العسكرية تحت اسم الثورات، وهي الانقلابات التي تمثلت في تآمر مجموعة من الضباط على “رفاق” الأمس الذين كانوا غالبًا ما يُعدمون أو يُعتقلون حتى الموت. ولدينا في سورية مثال “ثورة 8 آذار” و “الحركة التصحيحية”.
وغالبًا ما كانت هذه الانقلابات تقوم بتعليق الدستور، وتفرض أحكام الطوارئ، وتنظّم عمليات هندسة كبرى للدولة والمجتمع، تشمل الجيش والأجهزة الأمنية، ووسائل الإعلام، ومناهج التعليم والاقتصاد والمجتمع الأهلي …الخ؛ لتكون الأمور جميعها تحت سيطرة الزمرة الحاكمة التي كانت غالبًا ما تلتحف بشعارات شعبوية كبرى تضليلية اقتاتت عليها طوال عقود، تمكنت خلالها من تسطيح العقول وإفساد الضمائر، واستطاعت التغلغل إلى مفاصل المجتمع والتحكّم في مصاير الناس وحرياتهم وأرزاقهم.
وانتشرت أصنام الحاكم في جميع المدن والبلدات السورية، حتى وصل أركان الحكم الأسدي في سورية إلى قناعة تامة بأنهم قد استكملوا هيمنتهم على السوريين، ولم تعد هناك إمكانية لزحزحتهم، فانتشرت شعارات ما أنزل الله بها من سلطان، مثل: “قائدنا إلى الأبد الأمين حافظ الأسد”، و “الأسد أو نحرق البلد”!!
ولم تقتصر الأمور على ذلك، بل أصبح حزب البعث واجهةَ الحكم وأداته، وذلك بموجب الدستور الذي فرضه حافظ الأسد قائدًا للدولة والمجتمع، وأصبحت العضوية في هذا الحزب أو المنظمات التابعة له من “المسلمات الضرورية المطلوبة” المفروضة. أما من كان يمتعض أو ينتقد، أو حتى يصمت عن التأييد، فمصيره التشكيك والتحقيق والتهميش والإبعاد، والمراقبة والمتابعة، وصولًا إلى الاعتقال والتغييب.
ومع الوقت، انكمشت دائرة المعارضين العلنيين للنظام، وبات النشاط السياسي المعارض في معظمه مقتصرًا على الجوانب المطلبية، وعلى انتقاد الفاسدين الثانويين. وأصبحت المشاركة في الفعاليات الفلسطينية واللبنانية والعراقية متنفسًا للقوى السياسة المعارضة، التي كانت ملتزمة بالتحرك ضمن الهوامش المسموح بها؛ وذلك بعد أن كان حافظ الأسد قد سيطر على تلك الأوراق بناء على تفاهماته مع القوى الدولية، والتزامه بمطالبها الإقليمية، واعتمادًا على المعادلات التوازنية التي كان يحرص عليها من جهة علاقاته العربية (الخليجية تحديدًا) والإيرانية.
وفي الوقت ذاته، تمكّن الأسد من التحكّم في الورقة الكردية في تركيا، عبر حزب العمال الكردستاني، ليحوّل توجهات كرد سورية نحو الخارج، بعد أن وجد فيهم قوة حيوية يمكنها أن تحرك الركود السياسي الذي كان قد فرضه على السوريين من خلال ما يسمى بـ “الجبهة الوطنية التقدمية”.
وقد بلغت الثقة عند حافظ الأسد مداها حدًّا بعيدًا، حيث اعتقد بموجبه أنه قد غدا في مقدوره التحكّم في السوريين حتى وهو في قبره، ففرض بدعة التوريث في “جمهورية ثوروية” يحكمها في الظاهر حزب البعث “العلماني الثوري، حزب العمال والفلاحين”.
ومع بداية حكم بشار الأسد، ووعوده الوردية، اعتقد السوريون بامكانية التغيير التدريجي لطبيعة الحكم. فانتشرت لجان إحياء المجتمع المدني، ضمن نطاق مع عُرف بـ (ربيع دمشق) في مختلف المناطق السورية؛ ولكن سرعان ما كشفت مجموعة الحكم عن وجهها القمعي، وعادت إلى النهج الأسدي المعهود في التحكم والسيطرة، ومارست المزيد من الضغوط على السوريين؛ فكانت الثورة الشبابية التي جمعت بين سائر المكونات السورية، وكانت التظاهرات والاعتصامات والمهرجانات السلمية التي طالب المشاركون فيها، على مدى أشهر، بالرغم من القتل والتغييب، بمستقبل أفضل.
لقد أكدت الثورة السورية رغبة السوريين في الانعتاق، وجدارتهم بمستقبل أفضل يرتقي إلى مستوى إمكانياتهم وتطلعاتهم. ولكن قوى الشر الداخلية منها والإقليمية والدولية تضافرت جميعها في ما بينها، من أجل إرغام السوريين على الصمت مجددًا، والتزام “الطاعة” التي فرضها عليهم الحكم المستبد الفاسد المفسد، وهو الأمر الذي لم يحصل حتى الآن، ولن يحصل، بالرغم من مرور أكثر من عشر سنوات على انطلاقة الثورة، وبالرغم من كل القتل والتهجير والتدمير الذي كان، وما زال.
صحيح أن بشار الأسد ما زال شكليًا في الحكم بسيوف الآخرين، ولكن مفاهيم السوريين وطرائق تفكيرهم، ووجهات نظرهم قد تغيرت جميعها، وهي تغيّرات جذرية بنيوية ستتفاعل نتائجها بصورة تدريجية في مختلف الميادين. وقد بدأنا نتلمس ذلك في الواقع العملي على مستوى الفنون والآداب، والمراجعات الفكرية، وأساليب التنظيم والتواصل. وهناك مؤسسات إعلامية وبحثية تجمع بين مئات الباحثين والإعلاميين والكوادر المختصة، هذا إلى جانب عشرات الآلاف من الطلبة السوريين الذين يدرسون اليوم في الجامعات والمعاهد المتقدمة في معظم أنحاء العالم، خاصة في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية وكندا حتى أستراليا واليابان، وفي العديد من الدول العربية وتركيا وغيرها من الدول؛ حيث يتعلمون اللغات، ويكتسبون المعارف، ويطّلعون على آخر الإنجازات العلمية في مجالات اختصاصاتهم. ويطلعون على واقع وتجارب المجتمعات الأخرى المختلفة التي استطاعت وضع الحلول لجملة من القضايا الإشكالية التي كانت تعانيها، وكانت تبدو في يوم ما وكأنها مستحيلة الحل، ومنها تلك الخاصة بالمسائل الدينية والقومية أو الفكرية والإدارية.
كل هذه المقدمات وغيرها أدت، وستؤدي، تباعًا إلى تحرر السوريين من الأوهام الأيديولوجية، بكل أشكالها، وسيكون التركيز على كيفية تحسين قواعد العيش المشترك ضمن إطار الوطن السوري بين جميع المكونات السورية المجتمعية، على قاعدة احترام الخصوصيات والحقوق، واحترام العقائد والأفكار.
لقد عاش السوريون بانتماءاتهم المتعددة معًا عبر مختلف المراحل، بود ووفاء. ولم يشهد التاريخ السوري الحديث حروبًا أهلية بين المكونات المجتمعية السورية، ولم تبرز التوترات المذهبية والمظالم القومية إلاّ في ظل حكم حزب البعث، خاصة في مرحلته الأسدية الطويلة التي بدأت منذ أكثر من نصف قرن، وذلك بفعل سياسات هذا النظام التمييزية الإيقاعية، وخططه الرامية إلى تعطيل المجتمع السوري، وتحويل الدولة إلى أداة لاستمرارية سلطته.
هذه التحولات التي نتلمسها واقعًا، أو نتوقعها مستقبلًا، هي حصيلة الثورة السورية التي نزعت هالة القداسة الخادعة عن المسلّمات الزائفة التي رسختها الأسدية على مدى عقود، وهي تحولات تراكمية ستؤدي في نهاية المطاف إلى توافق السوريين على قواسم مشتركة ومفاهيم جديدة، في ميادين الإدارة والتنظيم والتعامل الإيجابي مع القوى المجتمعية، وكل ذلك سيمّهد الطريق أمام ظهور نظام سياسي مدني ديمقراطي يطمئن الجميع. نظام أساسه أحزاب وطنية سورية مستقلة الإرادة، تطرح برامج تركز على القواسم المشتركة بين السوريين، بعيدًا عن جميع أشكال التعصب الديني أو المذهبي أو القومي أو الأيديولوجي.
لقد أدت الثورة السورية وظيفتها، حينما نزعت ورقة التوت علن الحكم الأسدي الذي يحاول اليوم تسويق ذاته عبر الصفقات المكشوفة المشبوهة التي لم تعد تُقنع أي سوري غيور على شعبه ووطنه، وهذا هو التحوّل الأكبر الذي ستكون له تبعاته الواعدة في قادم الأيام. وربما سيأخذ الأمر بعض الوقت، ولكن التغيير قد بدأ، ولن تستطيع قوة في الدنيا إقناع السوريين بالعودة إلى حظيرة العبودية مجددًا.
عبد الباسط سيدا _ مركز حرمون للدراسات