بدأت “الرئاسة” ( في سورية ) منذ عام وأكثر حملة تنظيف شاملة، ما يعادل حركة تصحيحية، فأقصي امبراطور الفساد رامي مخلوف عن منصبه كجابي أموال لحساب العائلة ( الاسدية ) الحاكمة، التي لم تعد تتسع إلا لعائلة الرئيس، بينما تفرق شملُ العائلة الكبيرة، على الرغم من استمرار تعاضدها، لكن بات لكل فرع وغصن منها تدبير أموره، فبات للأخ عدا الفرقة العسكرية الخاصة به، سجون وحواجز واتاوات وتجارات واستثمارات، للقيام بمسؤولياته كدفع رواتب جنوده المدافعين عن الوطن، مع الوعد بضخ ما يزيد عما يكسبه لجهاز الرئاسة، لكن لا ضمانة للوعود، فالحاجة كانت تدفعه لإرسالها للخارج، لتستثمر في المنتجعات السياحية، أو توضع في حسابات آمنة.
أما العائلة في الساحل التي تكاثرت وتوارث الأبناء فعالياتها التشبيحية بعد مقتل الآباء أو تقاعدهم، وأوكل إليهم تشغيل أعوانهم، والعناية بأسطول سياراتهم، عليهم هم أيضًا دفع رواتب عناصر ميليشياتهم للدفاع عن الوطن أيضا، فكان من الطبيعي إجراء بعض التحول في السطو على الأهالي الذين لم يعد لديهم ما يأكلونه، فكان التوسع في تجاراتهم الترفيهية المشبوهة، وإيجاد منافذ للمخدرات مع تزايد مصانع الكبتاغون ورفع كفاءاتها ووسائل تصديرها، لكنهم لم يعرفوا أن المتنفذين في العاصمة شريك له الحصة الأكبر.
فالتجارات بأنواعها مراقبة، تخضع لضريبة الدخل تدفع لصالح الوطن.
للعلم، الرئاسة هي الوطن. والمال كي يدفع رواتب الجنود، وجيش العاملين في الأجهزة الأمنية وشراء الوقود من أي مصدر كان، وتزويد مناطق النظام بالنزر اليسير من الخبز والكهرباء، بالإضافة لمكافأة المسؤولين من النخبة التي ظلت إلى جانب الرئاسة طوال الفترة الحالكة من الحرب. أما التجار بأنواعهم، فاضطرت الرئاسة إلى الاستيلاء على أرصدتهم الفائضة، كجزء من محاربة الفساد، ولو أن بعضهم لم يتورطوا، لذلك كانت قيمة الغنائم مرتفعة، وإذا كانت قد صورت على أنها ضرورة اجتماعية ووطنية، فلتوحي بأن التصحيح لا يستثني أحدا.
كما لم يوفر الشركاء من رجال الأعمال الكبار، فجرى استهدافهم أسوة بالأصغر منهم، طولبوا بدفع الحصة الأكبر، لقاء امتيازات سابقة، منحت إليهم درت عليهم الملايين، لن تؤدى إلى افلاسهم بوسعهم تعويضها، فالامتيازات ما زالت سارية، وفي ازدياد.
هذه العملية سُوقت للموالين الأبرياء، وللموالين غير الأبرياء، على أنها تحديث للنظام بعد ابتعاد التهديدات عنه واستقرار الأوضاع له، تحديث من المبكر أن تحصد نتائجه سريعًا، بسبب الديون المتراكمة لإيران وروسيا، كما أن شراء السلاح ما زال مستمرًا، فالحرب قد تندلع في الشمال، ولا يجب أن يتخلف السلاح عن الانخراط فيها.
الذي لم يعرفه الموالون الذين وصفناهم بالأبرياء، مع استثناء غير الأبرياء، سوف يستبدلهم النظام بموالين جدد للمرحلة الجديدة، بعدما لم تعد لهم طاقة على تحمل البرد والحر والجوع والغلاء. لئلا تبطئ مسيرة التحديث التي لا يجوز أن تتوقف بعدما انطلقت، ومازالت في تقدم، بتبديل وزراء بوزراء، ومخابراتيين بمخابراتيين، وامراء حرب بأمراء حرب، وأثرياء حرب بأثرياء حرب، ولصوص بلصوص، وشبيحة بشبيحة، عدا الذين لديهم ملفات عالقة نجوا في جعلها معلقة من دون كثير انتقادات، لا مفر من بقائهم لاستكمال جرائم هم أهل لها.
هذه التبدلات لم تتطلبها الحرب، بل ما بعد الحرب، وليست جديدة، كانت تحصل حسب البرنامج القديم للأب الخالد: يرحل الشبعان ويأتي الجوعان، وهكذا تبدأ دورة جديدة من الاعتقالات والنهب.
هذه الخطوات التحديثية، لا تتم عشوائيا، وإنما مع خروج النظام من العزلة، بمساعدة وتأييد من الأنظمة غير الديمقراطية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والتأكيد على إبراز نجاح النظام السوري كدليل على أن القوة خيار صالح لقمع الاحتجاجات الشعبية.
فمن بين جميع ثورات الربيع العربي، كان النظام الأكثر استعدادًا لتغيير الطريقة التي تحكم بها المنطقة، بخلاف البلدان الأخرى التي شهدت احتجاجات كبيرة، وأثبت أنه الوحيد، الذي استطاع كسر أكبر ثورة شهدتها المنطقة، كان الفضل فيها لدولة تتحكم المخابرات بكل كبيرة وصغيرة، بكفاءة عالية لا نظير لها.
لو أن الثورة نجحت في سوريا، لفقدت دولة المخابرات سمعتها المخيفة، وانهار الاستبداد الإقليمي برمته، وإذا كانت قد أكدت على شيء فهو أن النظام محصن من الشعب الذي أقتنع ألا فائدة من أية محاولة، ولقد كان للشعار الذي رفعه النظام منذ بداية الاحتجاجات: الأسد أو نحرق البلد، مصداقية برهن عليها طوال عشرة أعوام، فحرق ثلاثة أرباع البلد، وبقي الأسد صامدا على الربع الأخير.
قد يستمر هذا السرطان، طالما ليس هناك من يردعه، لكن ما يبشر بالمزيد من الاستقرار، ففي المدارس اليوم، يلقن الأطفال عبادة الرئيس ومحبته باللغتين العربية والانجليزية، بالعربية للدول العربية، وبالإنجليزية للدول الغربية.
ولن نستغرب عندما سنرى في يوم قادم، الموالين في الجيش ومؤسسات التشبيح والموظفين ومجلس الشعب والاتحاد النسائي واتحاد الكتاب ومجلس الافتاء، وأفواجا من الفتيات يجهشون بالبكاء من شدة فرحهم برؤية الرئيس يعتلي منصة ما، كما في كوريا الشمالية تمامًا، ما يثبت ان الموالين السوريين هم الأكثر طاعة وعبودية وبكاء.
فواز حداد _ الناس نيوز