تجّار سوريا ليسوا وحدهم “الفجّار”

قبل العام 2011، كانت هناك سرديّة حكومية، كان يمكن أن تسمعها حتى في خُطب الجمعة، ربما بتوجيهات مخابراتية، أو لأنها تحولت جراء الزخ الإعلامي، إلى قناعة لاواعية لدى الشارع السوري، يختصرها وصف “الفُجّار” الذي لحق بالتجار. تلك السرديّة عادت للانتعاش مجدداً في السنوات الثلاث الأخيرة. لكن التجار الذين حظيوا بنفوذ وافر، جراء تحالف بعضهم الوثيق مع أجهزة النظام، وصعود آخرين يمثلون مصالح متنفذين، باتوا يملكون سرديّة مضادة قادرة على تقديم نفسها بقوة، عبر الإعلام الموالي. وما بين السرديتين، تظهر من حين لآخر، سرديّة ثالثة للصناعيين، لكنها لا تملك قدراً كافياً من التماسك، جراء تهاوي القطاع الصناعي، وهجرة معظم الصناعيين الكبار إلى خارج البلاد. 

ومع تحليق أسعار السلع في الأسابيع الأخيرة، على وقع تحليق سعر صرف الدولار ليكسر عتبات غير مسبوقة في تاريخ سوريا، عبّرت السرديات الثلاث، الحكومية والتجارية والصناعية، عن نفسها، عبر وسائل الإعلام الموالية. جاء ذلك بالتزامن مع ما بدا أنه اشتباك حكومي ممثلاً بجهاز الجمارك، سيء الصيت، مع قطاع التجار، ممثلاً بغرفة تجارة دمشق. وقد انحاز بعض الصناعيين، بسرديتهم، إلى جانب الحكومة. 

تصادم السرديات الثلاث، جاء في معرض الإجابة على سؤال: من يتحمّل مسؤولية الغلاء المستفحل في الأسواق؟ إذ بالتزامن مع اللقاء الذي جمع بين مسؤولي الجمارك وتجار دمشق، اتهم ممثلو التجار جهاز الجمارك بالمسؤولية عن جعل المنتج المحلي أغلى من الأجنبي، جراء الرسوم المرتفعة والعقبات الكبيرة التي يضعها أمام المستورد والمصدّر. 

واللافت في الأمر، أن السرديّة الحكومية بدت خافتة، على غير المعتاد، هذه المرة. وتلقفت هجوم التجار، بصيغة إقرارية. إذ اعترف مدير عام الجمارك بتعدد المبالغ التي يتم احتسابها وجبايتها على أساس الرسم الجمركي، لكنه نفى التهمة عن جهازه، مشيراً إلى أن ضبط التكاليف “غير المنظورة”، يتطلب تعاوناً بين جميع الأطراف.

لكن ما لم يقله مسؤولو الحكومة، قاله صناعيون، وكأنهم أوكلوا المهمة لهؤلاء. إذ برأ بعضهم ساحة “الدولة” – وأبرزهم الصناعي عاطف طيفور-، نافين عنها تهمة انحسار مهامها بالدور الجبائي. وتحدثوا عن تراجع تكاليف الشحن، دولياً، دون أن تتراجع الأسعار محلياً. إلى جانب اتهامهم للتجار بتحقيق نسب أرباح عالية قد تصل إلى 300% في المنتج، وبأنهم يسعّرون السلع بدولار بقيمة 7250 ليرة سورية، فيما سعر الدولار في السوق السوداء بدمشق، لم يصل إلى عتبة الـ 5000 ليرة. 

ولا يبدو تصدّر بعض الصناعيين لمشهد الدفاع عن الحكومة، مفهوماً. إلا إن أخذناه من زاوية شخصية، تخص كل صناعيّ على حدة. كما في حالة الصناعي عاطف طيفور مثلاً، والذي عُرف بتصريحاته العشوائية غير المنضبطة، والذي يخوض في الوقت الراهن حرباً إعلامية ضد منافسين له داخل غرفة صناعة دمشق، على خلفية انتخاباتها المزمعة. ويبدو أنه يرى من مصلحته “التزلف” لمسؤولين حكوميين، في هذا التوقيت بالذات. ذاك أن قطاع الصناعيين، ككل، لطالما ردد مظلومية مفادها أن الحكومة تحابي التجار على حسابهم. 

لكن، يبقى السؤال معلّقاً. هل حقاً تجار سوريا “فجّار”؟ هل يحققون أرباحاً خيالية، كتلك التي يتحدث عنها صناعيون، وهي التي تتسبب بهذا الغلاء غير المسبوق في الأسعار؟ الإجابة جزئياً بـ “نعم”. وجزئياً بـ “لا”. وهي حيثية أشار إليها بعض أبناء القطاع التجاري ذاته، حينما ألمحوا أكثر من مرة إلى انعدام التنافسية الذي يؤدي إلى ارتفاع الأسعار، في إشارة إلى احتكار تجارٍ بعينهم، لسلعٍ محددة، بتنسيق مع متنفذين داخل النظام. لذلك فإن تبرئة النظام من هذه المسؤولية، كما ذهب إلى ذلك الصناعي طيفور وأمثاله، ضربٌ من التعمية على الحقيقة التي يعلمها الجميع، بمن فيهم طيفور نفسه. فالأخير سبق أن اشتكى قبل عام من سرقة مصنعه بالكامل، في منطقة تخضع لتدقيق أمني كبير، في دمشق. وقد قاد على مدار سنوات، لجنة منطقة القابون الصناعية، على أمل إعادة حقوق الصناعيين المنهوبة في تلك المنطقة التي استملكتها الحكومة، بعد أن دمرها جيش النظام في سياق حربه ضد المعارضة المسلحة. وقبل أيام، أقرّ طيفور بأن الحكومة تطالب الصناعيين المتضررين الذين خسروا مصانعهم في القابون، بأن يدفعوا فواتير كهرباء لعدّادات مسروقة منذ سنوات، ناهيك عن ضرائب الدخل المترتبة عليهم. فهل هناك أكبر من دليل كهذا على دور حكومة النظام في النيل من قطاع الصناعة الوطنية، لصالح قطاع الخدمات والإعمار! ينطبق ذلك على قرارات سابقة سمحت باستيراد أنواع محددة من الأقمشة والخيوط القطنية، بصورة أضرّت بالصناعة النسيجية لصالح قطاع التجارة. وهو ما علّق عليه الصناعي طيفور، في وقت لاحق، بأنها كانت نتيجة ضغط أحد الصناعيين الذي تحول إلى النشاط التجاري، مما يؤشر إلى علاقته بمسؤولين متنفذين.

وبناء على ما سبق، إذا أردنا تحديد المسؤول عن ارتفاع الأسعار غير المسبوق في البلاد، لن نجد أفضل من منشور حسان النوري، وزير التنمية الإدارية الأسبق، والمرشح لـ “انتخابات الرئاسة” عام 2014. والذي كتب على صفحته الشخصية في “فيسبوك”: “لا بنزين ولا غاز ولا كهرباء ولا إنصاف اقتصادي واجتماعي بدولةٍ يملكها عشرون شخصاً يتملكون مقدراتها على حساب مثقفيها وتجارها وصناعييها وأساتذتها وخبرائها”. 

باختصار، فإن تجار سوريا ليسوا وحدهم “الفجّار”. أو بكلمات أدق، ما كان لبعضهم أن يكون بهذا الفجور، لولا شركاءه داخل أروقة النظام.

إياد الجعفري _ المدن

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

آخر الأخبار

سوريّات في فخ “تطبيقات البث المباشر”..بين دعارة إلكترونية واتجار بالبشر

يستقصي هذا التحقيق تفشي “تطبيقات البث المباشر” داخل سوريا، ووقوع العديد من الفتيات في فخ تلك التطبيقات، ليجدن أنفسهن يمارسن شكلاً من أشكال “الدعارة...

ابتزاز واغتصابٌ وتعذيب.. سوريون محاصرون في مراكز الاحتجاز اللّيبية

يستقصي هذا التحقيق أحوال المحتجزين السوريين في ليبيا خلافاً للقانون الدولي، وانتهاكات حقوق الإنسان داخل مراكز احتجاز المهاجرين، وخاصة تلك التي تتبع “جهاز دعم...

كعكةُ “ماروتا سيتي” بمليارات الدولارات

آلاف الأسر تتسوّل حقّها بـ"السكن البديل" على أبواب "محافظة دمشق" يستقصي التحقيق أحوال سكان منطقة المزة – بساتين الرازي في دمشق، بعد تهجيرهم من بيوتهم...

معاناة اللاجئات السوريات المصابات بمرض السرطان في تركيا

تصطدم مريضات السرطان من اللاجئات السوريات في تركيا بحواجز تمنعهن من تلقي العلاج على الوجه الأمثل، بداية من أوضاعهن الاقتصادية الصعبة والاختلاف في أحقية...

خدمات المساعدة القانونية المجانية للاجئين السوريين في تركيا

غصون أبوالذهب _ syria press_ أنباء سوريا الجهل بالحقوق القانونية للاجئين السوريين في تركيا يقف حجر عثرة أمام ممارسة حقهم بالوصول إلى العدالة، ويمنعهم...
Exit mobile version