بين ارث المجازر وهوية المشرق الجديدة

syria press_ أنباء سوريا

اليوم، وفي ظل إعادة تحديد الإنسانية لأولوياتها يبرز الاستقرار كعامل رئيسي لازم لمواجهة التحديات المستقبلية التي تنتظر البشرية، خلق هذا الاستقرار قد يعتبر من أهم المهام المنوطة بكافة الفاعلين وعلى كافة الأطر، الاستقرار السياسي، الاقتصادي، الاجتماعي، مهامٌ ستمر حتماً بمعالجة ماضي المجازر الثقيل الذي حمله ارث الإنسانية عموماً في الحقبة المنصرمة وبشكل خاص النتاج المُريع للحروب العالمية والذي لم تنته آثاره بانقضاء قرن وأكثر.. نتاج منهج التوسع والاستضعاف، ونتاج قرن من تغول وهمجية لا تمتلكان أي معنى ولا تفضيان الى أي هدف، سلوكيات بقيت وتبقى عصية عن أي تفسير موضوعي أو تبرير عقلاني.

تواجه اليوم بإحدى دورات الزمن، الدورة اللازمة لتصفير المقاييس وحسب تمهيداً للبدء بحقبة إنسانية جديدة بمتطلباتها وشروطها وتأثيراتها.

لكن معالجة ماضي المجازر الثقيل تعد في الحين ذاته المهمة الأصعب في المشرق، فهو مسار طويل وشاق لكونه يجر أعباء ماضٍ دموي شكّل ويشكّل حاجزاً امام العبور للأمن المجتمعي، وعلى الأخص منه ارث المجازر التي ارتكبت بحق مكونات عرقية أو دينية وبهدف انهاء وجودها والتي تعتبر عبئاً ثقيلاً لمن ارتكبها وعبئاً ثقيلاً لمن عانى من همجيتها، في كلا الطرفين يبرز موقع الأجداد، الأجيال السابقة المعنية بهذه الأحداث، ليحدد الحاضر والمستقبل.

فرغم أن مثل هذه المجازر جرت في معظم أنحاء العالم ألا أن الدول التي استطاعت تجديد هويتها استطاعت بشكل رئيسي تحرير الانسان من قيود التشدد العرقي والديني والطائفي والقومي، استطاعت بذلك تجاوز هذه السقطات الإنسانية وبناء هوية جديدة لهذه الشعوب تعتمد على مفهوم الحرية من أي قيد مقابل حفظ واحترام وضمان حقوق الانسان. مر هذا الوعي بحوامل عديدة أهمها ثقافة الاعتراف بالحدث كجريمة مريعة، ومن ثم الإدانة، التعويض، وأخيراً والأهم ضبط قوانين وأطر تضمن عدم إعادة مثل هذه الانتهاكات والجرائم بأي شكل كان وبالابتعاد عن التبرير، فأي تبرير لأي فعل همجي هو اشتراك مباشر بالجرم وهو تبني الهوية العدوانية ذاتها وبنفس الدوافع وبالتالي الإنذار باستمرارية مثل هذه الاعتداءات مستقبلاً وهو الأمر المرفوض كلياً من أي وعي انساني سليم.

بذلك تضمَّن مسار الشعوب المتحررة من هوية المجازر خطوة هامة ورئيسية، لا زال المشرق يقاوم صوابيتها لغاية اليوم، وهي كسر هالة القداسة عن أي تصرفات مُشينة إنسانيا والتي ارتكبت تحت أي مُسمى سواء الدفاع عن الوطنية حيناً أو الدفاع عن القومية حيناً آخر أو حماية عرق أو دين في أحيان أخرى عديدة والى ما هنالك من ذرائع. وإدانة هذه الممارسات، فما مُسميات البطولات التاريخية التي تُطلق على الحروب والدمار وما تضمنته من انتهاكات على تعدد مستوياتها، الا عائق أمام تحرير الأجيال المستقبلية من تبعات هذا الإرث، وهنا يحق لكل من يحمل همّ هذا التاريخ المشترك أن يطرح على الجميع السؤال المصيري، هل ستختار شعوب المشرق قدسية سردية الأجداد أم ستختار تحرير هوية أجيال المستقبل القادمة.

في هذا السياق تعتبر الذكرى السنوية لأي مجزرة أو لأي انتهاك هي حدث انساني وحقوقي وسياسي للتذكير ولمراجعة واجبة للتاريخ، والهدف المشروع لهذا التذكير هو نيل العدالة من جهة أحفاد ضحايا المجازر وبناء هوية جديدة من جهة ورثة هذه المجازر، بمقابل هذه الأهداف ليس لطول أو قصر الزمن أي معنى، فهو ان طال أم قصر فكسر دائرة العنف المرتبط بالمجزرة هو مسار مستمر لحين تحقيق الأهداف المرتبطة به.

من هذه المنطلقات يمكننا قراءة ادانة الشعوب للمجازر التي مرت بماضيها كحالة تطور للوعي التاريخي، كخطوة لإنهاء حقبة ما بعد الحرب التي تمتد بزمنها وبآثارها أضعافاً مضاعفة عن زمن وأثر الحرب بحد ذاتها، يمكننا قراءة هذه الادانات بفتح المجال لمنظور مختلف لضحايا الحروب بكونهم ضحايا لظروف الصراع والزمن المحكوم به وليسوا أعداء الحاضر أو المستقبل، وبفتح المجال لمنظور مختلف للعوامل المولدة للصراع وظروف تفاقمها بكونها عوامل تتطلب بدورها المراجعة والحلول العملية اللازمة لتحييدها عن التأثير بحياة الآمنين، عن الاخلال بأمن الشعوب وعن تقويض استقرار البلدان واستنفاذ قدراتها في سراب لا يمكن ربطه بأي معنى أو هدف.

فهذه المجازر، لا يمكن اعتبارها الا حالة انقطاع عن التحضر، وهذا الانقطاع عن التحضر يدفع بديهياً لانعدام الاستقرار ولتحريض تيارات عنف وعنف مقابل فلا يجمع بين الوصول للاستقرار والمجازر لا مكان ولا زمان، وقد يكون ذلك هو أكبر دافع نحو تقويم المسار، ومن هذا المنظور فهذا التقويم هو لمصلحة الشعوب بحد ذاتها وهي المعنية به باستقرارها وليست التيارات السياسية سواء كانت محلية أم دولية، لكن طيلة فترة التحريض السياسي والوعي السلبي الذي شكلته تجاه هذه القضايا تبقى عائقاً أمام وعي ذاتي يمتنع عن التبرير وعن القاء اللوم على الضحايا نحو محاكمة الحدث في ظل وعي انساني جديد وهو ما عليه الحال اليوم وربما أفضل ما تقوم به القوى العظمى وقادة العالم الحديث هو الدفع نحو تحقيق محاكمة الحدث دون تمييز بين زمنه ومكانه وضحاياه ونحو تحييد أسباب حصوله كافة مهما كانت معقدة وشائكة، بذلك تكون عربة التطور قد وضعت على سكة المسار السليم مبتعدة عن محطة اللاتحضر التي سقطت بها كافة شعوب الأرض يوماً دون استثناء.

د. سميرة مبيض _ نواة سوريا

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

آخر الأخبار

سوريّات في فخ “تطبيقات البث المباشر”..بين دعارة إلكترونية واتجار بالبشر

يستقصي هذا التحقيق تفشي “تطبيقات البث المباشر” داخل سوريا، ووقوع العديد من الفتيات في فخ تلك التطبيقات، ليجدن أنفسهن يمارسن شكلاً من أشكال “الدعارة...

ابتزاز واغتصابٌ وتعذيب.. سوريون محاصرون في مراكز الاحتجاز اللّيبية

يستقصي هذا التحقيق أحوال المحتجزين السوريين في ليبيا خلافاً للقانون الدولي، وانتهاكات حقوق الإنسان داخل مراكز احتجاز المهاجرين، وخاصة تلك التي تتبع “جهاز دعم...

كعكةُ “ماروتا سيتي” بمليارات الدولارات

آلاف الأسر تتسوّل حقّها بـ"السكن البديل" على أبواب "محافظة دمشق" يستقصي التحقيق أحوال سكان منطقة المزة – بساتين الرازي في دمشق، بعد تهجيرهم من بيوتهم...

معاناة اللاجئات السوريات المصابات بمرض السرطان في تركيا

تصطدم مريضات السرطان من اللاجئات السوريات في تركيا بحواجز تمنعهن من تلقي العلاج على الوجه الأمثل، بداية من أوضاعهن الاقتصادية الصعبة والاختلاف في أحقية...

خدمات المساعدة القانونية المجانية للاجئين السوريين في تركيا

غصون أبوالذهب _ syria press_ أنباء سوريا الجهل بالحقوق القانونية للاجئين السوريين في تركيا يقف حجر عثرة أمام ممارسة حقهم بالوصول إلى العدالة، ويمنعهم...
Exit mobile version