استضافت قناة “الجزيرة” الفضائية في برنامج “الاتجاه المعاكس”، أحد الناطقين باسم النظام وهو عضو في مجلس الشعب التابع له، وأثارت مزاعمه موجة من التفاعل في السوشال ميديا السورية، الموالية والمعارضة. وكان أكثر ما استفز الموالين قوله بأن الأوضاع في سوريا أفضل منها في دول الخليج العربي، وفي إضافة ذات مغزى قال إنه يذهب إلى الساحل السوري كل شهر وهو لم يشاهد فقيراً واحداً. ويبدو أنه أراد القول بأن أوضاع القاعدة الطائفية للنظام بخير، وأن التعويل على انقلابها بسبب سوء الوضع المعيشي غير وارد. والواقع أنه محق إلى درجة بعيدة، لكن ليس لأن “الساحل”، الذي يرمز به عادة في سوريا إلى مناطق سكنى الطائفة العلوية، يحيا في رخاء ونعيم.
المعارضة السورية هللت وطبلت لانقلاب مزاج الطائفة، وهي ليست الوحيدة التي يشغل بالها هذا التغير المحتمل. إذ يبدو أن الأمر صاراً هاجساً يقضّ مضجع زوجة بشار الأسد، التي ترهق نفسها برحلات مكوكية إلى الساحل السوري، مقدمة الخدمات والأموال التي تحصل عليها من هنا وهناك لتعين جريحاً هنا، ومعاق حرب يريد الزواج هناك، وتوزع البرغل والصيصان واصبعيات السمك على الأسر الفقيرة أينما حلت، وتجلب زوجها وأبناءها ليجلسوا على الأرض في بيوت أبناء الطائفة الفقراء لتقول أنها واحدة منهم، دافعة بأقصى ما تملك تهمة “السنيّة” عنها. أسماء الأخرس، وبسبب جهلها العميق بالبنية النفسية للجماعة العلوية التي بنى عليها حافظ الأسد مشروع حكم عائلته، تعتقد أنها بتلبية المطالب الفيزيولوجية لأبناء الطائفة تضمن أمن أولادها ومستقبلهم كقادة مستقبليين للبلد. لكن انشغالها في غير محله، وهي تنفق أموالها ووقتها في ما لا ينفع، كما أن المعارضة السورية تضع آمالها في موضع غير مُجدٍ.
المعاملة التمييزية للمنطقة الساحلية، ملحوظة وفاقعة أيضاً في سياسات مؤسسات النظام الرسمية، مثل وزارة الإدارة المحلية، ووزارة الزراعة التي تغدق أموال التعويضات هناك، سواء شبّ حريق في الغابات، أو هبّت عاصفة هوائية على شرق المتوسط. وللمنطقة حصتها الوازنة حتى من ميزانية إعادة الاعمار، مع انها تعمّرت أثناء الحرب ولم يطاول الدمار حجراً واحداً فيها. وينطبق الأمر على تسهيلات منح القروض الصغيرة بمختلف المسوغات، سواء كانت مشاريع صغيرة أو ريادة أعمال، إلى آخر ما هنالك، إضافة إلى إثقال كاهل القطاع الإداري بعشرات الآلاف من الموظفين الذين لا عمل لهم ولا مؤهل وظيفياً سوى كونهم من عائلات قتلى أو جرحى الحرب. وكلها تعني في النهاية أموالاً تتدفق على المنطقة دوناً عن غيرها، وغالباً ما يكون خلف هذه القرارات مسؤولون ثانويون يتقون بها تهمة التقصير في حق “الساحل”. لكن هؤلاء أيضاً مخطئون. فـ”أهل النظام” لا يصغون إلى تذمر هنا أو شكوى هناك، بل لعل هذه الأصوات التي تندّ عن “الساحل” بين الفينة والأخرى، تطمئنهم إلى حُسن سير الأمور.
الروس أيضاً يضخون أموالاً ومساعدات في المجتمع العلَوي، لا تترافق بدعاية ملحوظة على الأغلب. واللافت أن الإيرانيين لم يدخلوا في تنافس مع الروس هنا على كسب ودّ الطائفة، فطهران تعلم جيداً ما يوجع قلب الطائفة، وهي تعمل عليه بصمت، بعيداً من الساحل، في دير الزور وحلب وغيرها.
لقد دفعت ندرة الموارد المحليّة والاضطهاد المذهبي المديد، الأقلية العلوية، للانخراط في جيش المشرق الفرنسي قبل مئة سنة من الآن، ليصبحوا لاحقاً القوة الأبرز في الجيش الوطني بعد الاستقلال. وعلى اكتاف هؤلاء، أقام حافظ الأسد مشروع سلطة العائلة، مرتكزاً على نقطتين جعلهما استراتيجية دائمة له، وهما ذاتهما اللتان دفعتا الطائفة في المسار العسكري. الأولى، هي شحّ الموارد الدائم، الذي يمنع العلويين من التحول إلى مجتمع منتج، وإبقائهم عسكراً متعيشين على بوابة عائلة آل الأسد، ينالون المكافآت والمكرمات بمقدار ما يبدون من الولاء الصميمي. لكن، وفق القاعدة المكيافيلية التي تقول بعدم منح المكافأة دفعة واحدة، بل على أقساط، لا يتم دفع الجزء التالي منها إلا بعد أن يئن منتظرها من الحاجة. أما النقطة الثانية، فهي إبقاء جذوة القلق الطائفي متقدة، والتي يتم تعزيزها من خلال الاعتداء الوحشي على السوريين المستمر منذ أكثر من نصف قرن تحت شعار حماية سلطة آل الأسد، وبذلك يرتبط مصير الطائفة بمصير العائلة، برباط الدم الذي سفكاه معاً إلى الأبد.
بالعودة إلى وسائل التواصل الاجتماعي، التي لا متنفس إعلامياً للطائفة العلوية سواها، لا نلاحظ تذمراً كبيراً من سوء الأوضاع المعيشية هناك. أما المُلاحظ بشدة، فهو الانتشار الهائل للأدعية والابتهالات إلى الله والأولياء وأمير المؤمنين، بالحفظ والسلامة، وهي ظاهرة يُنظر إليها من زاوية علم النفس الاجتماعي السياسي، وبين جماعة عُرف عنها عدم الإغراق في التدين، على أنها مؤشر لنقص حاد في مشاعر الأمان، نستطيع أن نرده إلى الخوف من عنف بالغ، ينطوي عليه اليوم والغد. وهذا ما يثير أسئلة متعددة: ممّ ولماذا يخاف العلويون في اللحظة التي يعلنون فيها انتصارهم؟ وما تأثير هذا الخوف في حاضرهم ومستقبلهم ومستقبل سوريا برمتها؟
أترك لمن يهتم، تلمس بعض الإجابات عن هذه الأسئلة في الرواية الأشهر للجنوب إفريقي ج.م.كوتزي، الحائز على جائزة نوبل، والتي تتحدث عن حامية استعمارية تجاور منطقة يقطنها سكان أصليون يُدعون “البرابرة”. ومع أن هؤلاء لا يظهرون إلا في مواسم معينة، يأتون فيها لتبادل البضائع وشرب الخمر، إلا أن عسكر الإمبراطورية زعموا أن هذا الشعب يوشك على شنّ هجوم على الإمبراطورية وإبادة سكان الحامية، لتطلق القوات الخاصة حملة لتعقب “البرابرة” والتنكيل بهم. وتمضي يوميات سكان الحامية في رعب وقلق واضطراب وجداني وأخلاقي عميق، في انتظار ذلك الانتقام العنيف بمعنيَيه الرمزي والواقعي، والذي صار أكثر واقعية بعد ما اقترفه العسكر وسكان الحامية من جرائم، والذي لا عبارة لوصفه أبلغ من عنوان الرواية: “بانتظار البرابرة”.
عبد الناصر العايد _ المدن