syria press_ أنباء سوريا
التوتر الذي بدأ بين المقدسيين وشرطة إسرائيل بتاريخ السادس من مايو/أيار 2021 كانت شرارته قرار المحكمة الإسرائيلية العليا، بشأن تهجير أسر فلسطينية من منازلها في القدس بحي الشيخ جرّاح، ليتم إسكان أسرٍ مستوطنين في هذه المنازل بغير وجه حق.
اقتحام آلاف العناصر من القوات الأمنية الإسرائيلية، لباحات المسجد الأقصى، مساء يوم الجمعة الأخيرة من شهر رمضان المبارك، لم يكُن مجرد اقتحامٍ لفضّ اعتصامٍ أو منع تظاهرةٍ، بل كان خطوة ضمن مسارٍ، رسمته قيادة نتنياهو اليمينية، على وقع تطبيع سياسي، قامت به أنظمة هامشية عربية في الخليج مع دولة الاحتلال الصهيوني “إسرائيل”.
خطوة التطبيع المقترنة بدور مشبوه ورخيص لشركات خليجية قريبة من دولة الإمارات، كانت تشتري العقارات المحيطة والقريبة من جميع جهات المسجد الأقصى، ثم بيعها لليهود، ليتمّ تغيير هُوية أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين (المسجد الأقصى) وهوية المدينة المقدسة.
التطبيع العربي وهجمة اليمين الإسرائيلي، اعتمدا على رؤية محددة، هي تراجع وانحسار قوى ثورة الربيع العربي في أكثر من مكان، وعلى ضعف وترهُّل قيادة السلطة الفلسطينية بقيادة محمود عباس، التي لم تستطع فرض إرادتها بإجراء الانتخابات الفلسطينية في منطقة القدس، وبنفس الوقت، لم تستطع خلق مربعات تفاهم مع الاتجاه الفلسطيني، الذي تقوده حماس في قطاع غزة.
تأجيل الانتخابات الفلسطينية، وعودة اليمين الإسرائيلي إلى مربع عدم القدرة على تشكيل حكومة قوية وقادرة، شجّع بنيامين نتنياهو، على ركوب موجة الاعتداءات العسكرية، بحق القدس، باستخدام القوة العسكرية المدمرة، بحق قطّاع غزة، بغية فرض حلٍّ سياسي، اعتقد نتنياهو أنه مواتٍ له.
حركة حماس أرادت ملء فراغ دور السلطة الفلسطينية السياسي والقيادي، فهُرعت لملء هذا الفراغ باستخدام قدراتها العسكرية المتوفرة لديها، وتحديداً قدراتها الصاروخية، من أجل تغيير قواعد اللعبة العسكرية والسياسية، التي فرضت شروطها إسرائيل، في ظروف سابقة مختلفة عن الظروف التي تعيشها المنطقة، أو قوى الصراع المباشر (حماس من جهة وإسرائيل من جهة أخرى).
التطبيع الذي قامت به قوى الثورة المضادة العربية مع إسرائيل، زاد احتقان الشارع الفلسطيني والعربي، وأظهر للشعوب العربية، أن هذه الأنظمة لا تهتمّ لمصالح شعوب الأمة، بقدر اهتمامها بفرض هيمنتها وسلطتها، ولو تمّ ذلك عبر التحالف مع أعداء الشعوب العربية والإسلامية.
الفلسطينيون أدركوا خطر هذا الاتجاه، وهم لن يستطيعوا إسقاطه في ساحات بعيدة بصورة مباشرة، وإنما يتمّ إسقاطه في ساحتهم، من خلال تعرية اليمين الإسرائيلي، الذي ليس لديه أي خطة سلام حقيقية، على أساس قرارات الشرعية الدولية، التي تقول بقيام دولة فلسطينية على جميع الأراضي، التي احتلتها إسرائيل بعدوان عام 1967، وأن تكون القدس عاصمة لها.
الفلسطينيون أدركوا أيضاً، وعبر سنوات الثورة السورية، التي لا تزال مستمرة، أن ما يسمى “محور المقاومة والممانعة” إنما هو محور يتلطى خلف مثل هذه التسميات والشعارات، دون أن يفعل أي شيء لنصرة الفلسطينيين، وقد ظهر جلياً أن أدوات وقوى هذا المحور، لم تقدّم أي جهد في اتجاه نصرة شعب فلسطين، وهو ما دفعهم إلى رفع أعلام الثورة السورية في تظاهرات القدس والأراضي الفلسطينية.
وفق ما تقدم، يمكن القول إن البنى السياسية التي يمثّلها تيار منظمة التحرير الفلسطينية، بقيادة محمود عباس، وتلك التي تمثّلها قوى فلسطينية متعاونة مع أنظمة الثورة المضادة العربية، إنما هي قوى باتت عاجزة عن حمل مشروع قيام دولة فلسطينية مستقلة، وفق قرارات الشرعية الدولية، هذا العجز مرتبط ببنيتها السياسية، التي ابتعدت كثيراً عن جوهر العمل التحرري الحقيقي الفلسطيني، ورهنت كل أجنداتها لموازين قوى خارجية، هي غير فاعلة بها، مما عرّض الكفاح الفلسطيني، عبر انتفاضاته المتعددة، للانكشاف أمام العدو، وسهّل عملية إجهاضه، ومن نتائج هذا الإجهاض، تراجع محور قوى الكفاح السياسي، التي كان يقودها مروان البرغوثي، وفصائل سرايا الأقصى.
إن قيام حركة حماس بضرب إسرائيل بالصواريخ التي تمتلكها، هو عمل غير كافٍ لتغيير قواعد الصراع مع إسرائيل وحلفها، فهذا العمل يحتاج إلى استراتيجية سياسية وطنية ناجزة، أول شروطها عدم رهن القرار الفلسطيني الثوري بأي جهة إقليمية أو دولية، وثاني هذه الشروط، يحتاج إلى مرونة سياسية، لتشكيل أوسع قيادة عمل سياسية وميدانية فلسطينية، مما يعني إزاحة كل المعرقلين لهذا التوجه لدى كل الأطراف.
هذه الرؤية تتطلب من بعض القوى الفلسطينية الابتعاد قدر استطاعتها عن مؤثرات الآيديولوجيا على قرارها الوطني، وتتطلب إضعاف التدخل الإقليمي أو الخارجي بأقصى ما يمكن في القرار الوطني الفلسطيني، وضرورة إعادتها لتعريف مفهوم الوطنية الفلسطينية، ومفهوم الدولة الفلسطينية، ومفهوم التحالفات الوطنية، دون الاتكاء على مرجعية آيديولوجية، بل الاعتماد على مرجعية أن تكون فلسطين الأولوية.
كذلك تتطلب هذه الرؤية من محمود عباس وأقرانه، ممن انتهى بهم المطاف إلى جمود قضية بناء دولة فلسطين المستقلة، فسح المجال للصفين الثاني والثالث لأخذ دورهما في مقارعة التهويد، كي لا يكونوا في مربع الاتهام بالعرقلة الوطنية الكفاحية.
إن صمود الفلسطينيين بانتفاضتهم الجديدة، وبمواجهتهم للصلف العسكري الصهيوني، يجب أن يرسم بداية نهاية للنفوذ اليميني الإسرائيلي، وبداية انعطاف في البنية المجتمعية الإسرائيلية.
هذه المعادلة ذات بعدين، داخلي وإقليمي، فتوسُّع وتعمُّق الانتفاضة السلمية، وظهور قيادات ذات موقف وطني جذري فلسطيني، يعني ببساطة سحب البساط من قوى الثورة المضادة العربية، اللاهثة وراء التطبيع مع العدو الإسرائيلي، من أجل حماية ممالكها أو إماراتها، وهذا يعني انكشافها أمام شعوبها، وأمام الشعوب العربية والإسلامية، كقوى متآمرة على قضايا الشعوب.
أما داخلياً، فيعني ذلك بدء تراجع نفوذ اليمين الإسرائيلي، وانكشافه كبنية استنفدت دورها التاريخي بالالتفاف على حق الفلسطينيين، مما يعني سقوط مبررات وجود هذا اليمين السياسية، المبنية على ابتلاع المنطقة العربية، عبر سياسة رسمها ذات يوم هنري كيسنجر وزير خارجية الولايات المتحدة، الذي قال بنظرية سياسية أسماها “سياسة الخطوة خطوة”.
التقاط جوهر الانتفاضة الجديدة لا ينبغي أن يتمّ على أساس حسابات الربح والخسارة المؤقتة، فمثل هذه الممارسة والاتجاه، ستمنح اليمين الإسرائيلي مزيداً من الوقت والحياة، أما خنق اتجاهه عبر الصمود، فهذا يعني أن الحلقة المركزية للثورة المضادة في المنطقة العربية بدأت التفكك من إسرائيل، وهو ما سيفكّكها في الحلقات الأخرى، في هذه الثورة المضادة.
هذا الاتجاه الصاعد، يحتاج بالضرورة إلى كوادر الصفين الثاني والثالث، لتتقدم لتأخذ دورها في النضال الوطني الفلسطيني، فالذي ثبت حتى الآن، أن قيادات الصف الأول باتت عاجزة عن قيادة عمل كفاحي استراتيجي، ضد مطامع الحركة الصهيونية العالمية، وضد حكومات اليمين الإسرائيلي، وضد حلقات ارتكازها إقليميّاً.
الفلسطينيون مدعوُّون إلى تأطير وحدة كفاحهم وانتفاضتهم، ومدعوون إلى اختيار قيادات شابة وطنية مجرَّبة، تقود نضالهم السلمي بالحجارة والاضرابات والعصيان المدني.
إن نجاح الانتفاضة وتعمُّق دورها، سيضعف بالضرورة حلقات الارتكاز لليمين الإسرائيلي، ونقصد الأنظمة السياسية المعادية لشعوبها، وفي مقدمتها النظام السوري، الذي أدرك المنتفضون الفلسطينيون أنه نظام مُعادٍ لهم وللشعوب، لذلك رفعوا رايات الثورة السورية.
إن من حق انتفاضة فلسطين رسم سياساتها الوطنية الجذرية، خارج قيود الآيديولوجيا الدينية أو القومية، ومن حقها قبول الدعم غير المشروط، من قوىً تناصر الحقّ، وتناصر تطوُّر شعوب المنطقة، دون أن تحاول الهيمنة عليها، وهي بذلك تفتح أبواب تغيير سياسي في كل الحلقات الأخرى، فهل تَوَضَّحَ لماذا تُعتبر قضية فلسطين قضية مركزية في النضال والكفاح التحرري العربي؟ إنها الحقيقة التي تَخلَّت عنها الطبقات الحاكمة العربية المعادية لتطوُّر شعوبها، وإن الانتفاضة الجديدة تعيد الاعتبار لهذه الحقيقة.
أسامة محمود آغي _ تي ري تي عربي