تم نشر هذه المادة لصالح حملة “كانوا هنا” من ضمن مشروع “صوت العدالة”
عادات وتقاليد تحاصر الإناث المحيطات بالمختفيات قسريا
( حرمنا أخي من جميع حقوقنا في الحياة بعد اختفاء أختي الكبرى) بهذه الكلمات بدأت الشابة وداد ذات العشرين ربيعا حديثها وهي تسرد لنا ما حدث معها خلال العقد الأخير من عمرها، والذي أمضته بين عذاب الفقد والألم من جهة والشقاء والحرمان من جهة أخرى، عقب اعتقال أختها الكبرى التي وصفتها بالأم والأب والصديقة والجميع بالنسبة لها.
كبرت وفاء وترعرعت في أحضان أختها التي كانت تناديها أمي، بعد وفاة والدتها وهي في سن صغيرة للغاية لايتجاوز 9 شهور، ولم تدرك الحقيقة إلا بعد بلوغها أحد عشر عاما عندما اكتشفت أن الوالدة والصديقة والحنونة هي أختها لا أمها.
تقول الشابة وداد: لم أشعر يوما مع وجود أختي رقية (اسم مستعار) بالنقص أو الاختلاف عن بقية الأطفال الذين يعيشون في أحضان أمهاتهم، إلى أن جاء اليوم الذي لا يمكن لي وصفه سوى بيوم الموت، يوم الوجع، بل يوم الجرح الذي لم يندمل بعد.
في 23 شباط 2014 يوم الفقد المفاجئ، ذاك اليوم الذي خرجت به أختي بسيارتها دون عودة والتي اقتنتها بعد عشر أعوام من العمل المتواصل والجهد المضاعف بدأتها بتطريز الخرز على الملابس مقابل أجور زهيدة وأنهتها بالوصول لمكان من الصعب على فتاة بعمرها بلوغه دون أي دعم معنوي من أسرتها أو مجتمعها، حيث كانت حريصة على تأمين جميع احتياجاتي وأخواتي الخمس بعد أن تخلى عنا والدي وتزوج من امرأة أخرى وانقطعت أخباره، كما هو الأمر بالنسبة لأخوتي الشبان الذين لم يلتفتوا يوما لمتطلباتنا أو لإظهار قليل من الحب حتى وإن كان مجاملة.
تكمل الشابة حديثها قائلة: حاولنا التواصل مع رقية على هاتفها المحمول منذ خروجها من المنزل في الساعات الأولى من النهار ولكن دون جدوى، إلى أن أصبح الوقت قبل منتصف الليل أجابت أخيرا على مكالماتنا التي لم تنقطع لثواني، نبرة الخوف والتوتر تغلب على صوتها، حدثتنا بكلمات قليلة بدأتها بطمأنتنا عن نفسها وإخبارنا أنها مضطرة للغياب لأيام قليلة، وأنهتها بتوصيات للاعتناء بأنفسنا وببعضنا البعض.
تحبس وداد أنفاسها وتطلق زفرات طويلة، وهي تسترجع تلك الكلمات التي قالت إنها آخر ما سمعته من أختها، لتبدأ بعدها الدخول في الأزمة الحقيقية والتي لم تكن مهيئة لاستقبالها وخاصة أنها أصغر أخواتها البنات، اللواتي حاولن مرارا السؤال عن مصيرها، ليعلمن مؤخرا أنها موجودة في فرع المخابرات الجوية في المزة، لتنقطع أخبارها بعد ذلك رغم محاولات البحث الفاشلة في سجون متفرقة.
معاناة جديدة ورحلة مطولة في الحرمان والقهر
تكمل وداد: لم يتقبل أخي فكرة بقائي وأخواتي بمنزل بمفردنا فاصطحبنا للعيش معه، أو إن صح التعبير لتقييدنا في سجن مصغر تحكمه العادات البالية، حيث لا يقل وحشية عن سجون النظام سيئة الصيت، ليحرمنا على مدار أربع سنوات من أبسط حقوقنا كالتعلم أو الاختلاط بالبشر أو حتى الخروج من المنزل، لدرجة أنه عندما كانت تمرض إحدانا يمنعها من زيارة الطبيب، بالإضافة لتعنيفه لنا بالضرب والشتم، حيث يلومنا باستمرار لاعتقاده أننا سنجلب له العار كما جلبته له رقية باعتقالها.
تضييق وإجبار على الزواج وعقد نفسية
لم تغب محاولات الأخ بفرض الزواج الإجباري على وداد وأخواتها، الأمر الذي دفعهن للهرب من منزله لإكمال حياتهن بعيدا عن الظلم والقلة والوصمة والخيبة، ليصل المطاف بهن لمكان بعيد يصعب الوصول إليه، لمواجهة قدرهن بمفردهن دون أدنى مقومات أو مؤهلات للبدء بحياة جديدة، وخاصة أن المجتمع ينظر للفتاة ممن لا سند لها على أنها فريسة من السهل تصيدها، فيحاول الكثيرون تحطيمها بدلا من دعمها.
“كالذي يمسك بالشيء ويقوم باسقاطه فجأة على الأرض” بكلمات موجزة ومعبرة وصفت وداد حالتها التي تغيرت جذريا من واقع لواقع مختلف تماما، لا مستقبل فيه يضمن حياتها أو سند حقيقي يعينها للوقوف على قدميها، وخاصة في ظل تعرضها لحالة نفسية منهكة، رغم محاولاتها بإظهار العكس للعيان وإبراز قوتها وقدرتها على تجاوز المحن إلا أن طفلا شاب قبل أوانه بداخلها.
رسالة وداد التي وجهتها لكل من يسمع قصتها والمعاناة التي مرت بها بعد اختفاء أختها بل أمها كما عبرت، بالالتزام ببر الأمهات والإحساس بقيمة وجودهن، لأنها نعمة لا يدركها البعض إلا بعد زوالها، كما وجهت للعالم نداءات استغاثة لإنقاذ الفئة الأكثر تضررا من النزاع في سورية وهم فئة المختفين قسريا، وإيصال أصواتهم المكتومة، وختمت حديثها بغصة ودمعة متوجهة إلى ربها بالدعاء بالفرج وتوكيل بثها وحزنها.
أميمة محمد _ حرية برس