هل تلعب الأخبار الآتية من بعيد دوراً في تأزيم أحوال المقيمين في سوريا، ليست الأخبار وحدها من يفاقم صعوبة الحياة اليومية، بل إن سرعة تردي الأحوال المعيشية والترقب الحذر للأسوأ، قد يكونان الشرارة التي تشعل نار المقارنة ما بين واقعين.
في حي القصاع وهو حي عريق في العاصمة دمشق، تقف مجموعة من الشبان على درج طويل ممتد، أصواتهم عالية، تلتقط منها كلمة “هجرة” تتكرر عشرات المرات، يمر شابان يتحدثان الإنكليزية، ثم يقترب أحدهم من الشابين الأجنبيين، يردد بحرقة ساخرة وكأنه يسألهما: “في فيزا؟ في كفالة؟ نحنا في مصاري”، ينسحب الشابان مسرعين، ويغرق الشباب المخذولون في ضحك هستيري، ثم يصمتون ويغرق كل منهم في أشجانه الخاصة.
في شوارع دمشق تبدو كل التفاصيل موقتة وكأنها على وشك الرحيل، حقائب السفر هي الأكثر حضوراً، وحكايات الشبان العالقين على المعابر تتأصل في الوجدان فيتناقلها السوريون والسوريات وكأنها حكاياتهم الشخصية.
ازدحام حاد على منافذ إصدار جوازات السفر وتجديدها، ازدحام يصل حتى الرصيف المقابل لمركز الجوازات، ومن ينتظر استلام جوازه يبدو وكأنه محتجز في مكتب أضيف على عجل إلى بناء المركز الأصلي من شدة الضغط.
في المرجة مشهد مختلف، رجال ونساء يحملون ظروفاً بلاستيكية بأيديهم، يتمسكون بها بحرص مبالغ به خشية إضاعتها، فقد تكلفوا جهداً ومالاً للحصول عليها، تغص مكاتب الترجمة المحلفة في شارع رامي بالمرجة بطالبي الترجمة.
قبل مدة قصيرة، عاد محمد من الحدود البولونية مكتئباً وقد فقد الأمل بعدما أنفق 17 مليون ليرة هي تكاليف السفر إلى بيلاروسيا. محمد الذي تخرج طبيباً قبل سفره بشهر واحد، وفور عودته أقفل باب غرفته في بيت العائلة ونام ليومين متتاليين، وعندما استفاق أعلم والده بأنه سيعيد تقديم أوراقه للاختصاص في إحدى جامعات ألمانيا التي تسهل منح الموافقات تحديداً للأطباء الجدد الراغبين بالاختصاص، قال جازماً: لن أبقى هنا أبداً.
يتعامل السوريون والسوريات مع الهجرة كحل سحري لمشكلاتهم وعجزهم الذي يتفاقم يوماً بعد يوم، يقول مجاب: “ما سأدفعه للمهرب يمكنني إيفاؤه بعد شهور من وصولي إلى بلد اللجوء”، يبدو متأكداً من سهولة إيفاء المبالغ الطائلة التي سيقترضها، أما ربيع فقد أجبر والدته على بيع قطعة الأرض الوحيدة التي يملكانها في القرية، واعداً إياها بأنه سيلم شملها لتلتحق به بعد سنة واحدة على أبعد تقدير.
في حافلة النقل الداخلي الكبير تقارن سيدة بين خاتمي خطبة في السبابة اليمنى لشابتين ترافقانها، الخاتم العريض يعني أن العريس لاجئ، والخاتم النحيل يعني أن العريس مقيم هنا، مقارنة مجحفة وفوارق شبه حاسمة.
يرن جوال الشابة صاحبة الخاتم العريض والحابس الماسي الذي يؤازره، تصرخ بالسائق طالبة منه التوقف، تقول للسيدة إن خطيبها يتصل بها وتخاف الرد لأنه سيطلب منها فتح الكاميرا، وكان قد نهاها مراراً عن استعمال الحافلات العامة للتنقل، تغادر مسرعة، تعلق الشابة صاحبة الخاتم الرقيق: “الله يطعمنا اللجوء كي نركب تكاسي!”.
يبني السوريون والسوريات آمالاً عريضة على الهجرة، عائلات بأكملها تفكر بالهرب من هذه البلاد. تصر أحلام على أنها لن توافق على سفر زوجها بمفرده، يقترح عليها اصطحاب الابن الأصغر لضمان لم شملها كأم مع ابنتيها الأكبر سناً، ترفض بشدة، وتكرر: “يا منوصل سوا يا منموت سوا!”.
للهجرة دوافع لا تخص المهاجرين والمهاجرات وحدهم، ثمة من يدفعهم ويشجعهم على الرحيل واللجوء، واختيار وسائل آمنة نسبياً للهجرة مهما كلف الثمن لأن معظم الأسر السورية تعيش على مساعدات يرسلها أبناؤها أو إخوتها أو أقرباؤها الذين يعيشون في الخارج، ينتظرون المساعدات الشهرية وكأنها رواتب يلتزم اللاجئون بسدادها شهرياً وعند اشتداد الحاجة كالمرض أو مواسم المدارس.
اللافت في الأمر أن السوريين ينظّرون للهجرة وكأنها فعل ثنائي المنفعة، يعترفون بحاجتهم الماسة للجوء لتحسين فرص عيشهم، لكنهم وفي حالة إنكار أو استسلام هش، يؤكدون أن كل الدول الكبرى بنت بلادها بسواعد اللاجئين…
هل تلعب الأخبار الآتية من بعيد دوراً في تأزيم أحوال المقيمين في سوريا، ليست الأخبار وحدها من يفاقم صعوبة الحياة اليومية، بل إن سرعة تردي الأحوال المعيشية والترقب الحذر للأسوأ، قد يكونان الشرارة التي تشعل نار المقارنة ما بين واقعين، ما بين حياتين، تغدو الأحلام مشروعة، إنما مستحيلة ومؤرقة والأصعب أنها مكلفة جداً.
في سوق الخجا، يشتري شابان حقيبتين صغيرتين، يحاول البائع ترغيبهما بشراء حقائب أكبر، لكنهما مصران على شراء حقيبة صغيرة، لا يتسرب الماء من قماشها ومزودة بقفل رقمي، يكتشف البائع أنهما سيركبان البحر للوصول إلى اليونان أولاً، يطمئنهما بخصوص متانة الحقيبة وجودتها، لكنه يحذرهما من سوء أخلاق المهربين وأطماعهم التي لا تشبع.
يروي لهما حكاية شباب غدر بهم المهربون، يعلن أنه وبحكم عمله يمتلك مخزناً كبيراً من الحكايات المريرة التي أهدرت أموال الراغبين باللجوء، وفي بعض الأحيان تعرضهم لمخاطر كبيرة قد تودي بحياتهم دون رحمة، ودون أي أمل بالتعويض.
كل صباح، تحضر أم رواد دلة القهوة الكبيرة، تحضر أربعة فناجين وتباشر الكلام على المجموعة العائلية المعدة على الواتس، أبناؤها الثلاثة مسافرون ، كل منهم في بلد، لكن استقبال اليوم الجديد يكون دوما برفقة الجميع، صبحية عائلية كما تسميها أم رواد، تخبئ ما تبقى من القهوة للمساء، للصباحات التالية، لكن الفناجين تبقى على حالها وكأن أصحابها حاضرون رغم الغياب، الله يسعدهم ويبعدهم، لكنها تردد ذلك بحرقة بالغة، تشكر ربها لأن أحداً منهم لم يترك دراسته مضطراً في تلك البلاد الغريبة، تصر على عبارة أن أولادها بالغربة، تنتظر ساعة اللقاء بأمل شحيح وبرجاء ضئيل.
في شوارع دمشق، رائحة الغياب تطغى على كل الروائح، رائحة القهوة تذكير مستمر بالغياب، ورائحة أقمشة الحقائب تحفز الأمل في قلوب تنتظر وتتأمل.
على الشاشة الزرقاء صور لمسافرين وصلوا لتوهم إلى مهاجرهم والقبلات وباقات الورود والصور الحماسية في انتظارهم، صور لشباب في المطارات، وأخبار عن شباب امتدت رحلة هجرتهم حتى وصلوا هولندا وطلبوا اللجوء فيها أكثر من ثلاثة أشهر وبعضهم أمضى 6 أشهر، لكنه ممتن للقدر الذي قدم له بيتاً ريفياً مهجوراً على الحدود التركية لينام ويختبئ بانتظار العبور، تبدو دروب الهجرة ساحة معركة، كر وفر، بعضهم وصل حتى حدود اليونان أو بولونيا وأعاده حرس الحدود مرغماً، والبعض الآخر ينتظر فرصاً قد يكون الموت إحداها لينتهي مشوار العذاب وتنتهي الرحلة.
وهنا، تنتظر الأمهات والزوجات والحبيبات والآباء والأبناء الأخبار، ينتظرون الكهرباء لشحن الجوالات لضمان وصول الأخبار السعيدة، اللجوء أوسع من حلم وأضيق من فرصة.
سلوى زكزك _ درج