syria press_ أنباء سوريا
بالعودة إلى التاريخ، تتضمن عملية بناء الأمة، أي أمة، عنصرين متكاملين، يعتمد كل منهما على الآخر، ويصعب الفصل بينهما؛ بناء الأمة ماديًا عبر الاهتمام ببنيتها التحتية، وبناء الانتماء إلى جماعة وطنية. وقد اعتمدت مشروعات البناء الوطني، عبر التاريخ، هذين المسارين معًا بدرجات متفاوتة؛ فهناك محاولات لم يكن فيها تزامن بين العمليتين، وحالات حصل فيها عملية بناء جزئية تغلَّب فيها أحد البعدين على الآخر، وحالات نجحت فيها مجتمعات في السير خطوات على مستوى البناء التحتي، فيما فشلت على مستوى بناء الانتماء.
في الدول الحديثة، يُبنى الانتماء الوطني على أساس حصول الفرد على الجنسية، وهذه يترتب عليها حقوق المواطنة المتساوية. ولا شك في أن حقوق المواطنة عنصر رئيس ومركزي في بناء الانتماء الوطني؛ إذ لا يمكن أن يتحقق الانتماء بوجود التمييز بين المواطنين، أكان تمييزًا على أساس الإثنية أو الطائفة أو غيرهما، كما لا يمكن أن يتحقق بوجود جماعات فوق جماعات أخرى. قد تكون الجنسية والمواطنة كافيتين في الدول الحديثة التي تتوافر على حدٍّ معقول من البناء والانتماء الوطنيين سلفًا، لكن يُعتقد ألّا تكون الجنسية والمواطنة كافيتين لإعادة بناء البلدان الهشة أو ناقصة النمو الوطني.
سارت دول الخليج العربي مثلًا خطوات متقدمة على مستوى البناء التحتي، اقتصاديًا وعمرانيًا، لكنها لم تنجح بالقدر ذاته على مستوى بناء الهوية الوطنية، على الرغم من وجود “الدولة”، مع انتباهنا إلى أنها ليست دولًا بالمعنى الحديث، بحكم كون أنظمة الحكم فيها أقرب إلى السلطنات، لكن مع ذلك تبقى هناك “دولة” بالحدود الدنيا. وفي سورية أيضًا كانت هناك “دولة” بالحدود الدنيا، على الرغم من أن الاستبداد اختزلها بالسلطة عبر الزمن، والأمر نفسه ينطبق على الدول الأخرى في المنطقة العربية بدرجات متفاوتة. هل يعود عجز المنطقة عن بناء دول وطنية حديثة إلى طبيعة “الدول” السائدة فحسب أم أن هناك أسبابًا أخرى؟ إن وجود الدولة شرط مركزي وأولي لبناء الأمة والهوية الوطنية، لكنه -في اعتقادي- غير كاف، وهنا يأتي دور النخب؛ الثقافية بصورة خاصة.
في “دولنا” الهشة، غالبًا ما تكون عملية بناء البنية المادية التحتية أداة للتعويض عن الحاجات المعنوية للأمة؛ لذلك يجري التركيز على البناء الميكانيكي، وغالبًا المعماري، بوصفه شيئًا بديلًا أو يمكن أن يعيض عن الحاجات المعنوية والروحية للأمة. يتمثل البناء المادي بالجانب العمراني بصورة خاصة، مثل بناء المطارات والجسور والأبراج السكنية، وغيرها؛ كثيرًا ما يُفتخر في ماليزيا بأبراج بترونا، والأمر نفسه يشكل نقطة رئيسة عند التعرض لإنجازات دول الخليج العربي، ربما لأن البنية التحتية تؤدي دورًا في تشكيل عنصر توازن نفسي للأمة أو في بناء المخيال الوطني، كونها تعادل عمليًا التغلب على الصعاب وقهر الطبيعة وزراعة الصحراء، وتمثل إنجازًا كان يبدو مستحيلًا أو يصعب تخيّله، وهذه الروح المتحدية يُؤمل منها أن تساهم في تكوين روح الجماعة الوطنية المتشكلة أو الآخذة في التشكل، أي هوية الأمة.
أما البعد الآخر في بناء الأمة، أي بناء الانتماء الجماعي، فهو أكثر تعقيدًا وصعوبة، وهو يحتاج – بحسب بنيديكت أندرسون في حديثه عن “المجتمعات المتخيَّلة” – إلى خلق رابطة انتماء مزدوج، أفقي (جماعي) وعمودي (مؤسساتي). ولا شك أيضَا في أن بناء الجماعة الوطنية أو الأمة، تساهم فيه الأيديولوجيا والديماغوجيا، بصورة عامة، ولا يخلو من الإكراه في حالات خاصة، بصورة مركبة، وبنسب متفاوتة.
عملية بناء الدولة وعملية بناء الأمة عمليتان منفصلتان من جهة، ومترابطتان من جهة أخرى، وليستا متزامنتين بالضرورة. في إيطاليا مثلًا سبقت عملية بناء الدولة الإيطالية ولادة مفهوم “الطَّلْيَنة” أو الهوية الإيطالية أو الأمة الإيطالية، لكن لا يمكن الجزم بأن الأمور تجري هكذا دائمًا، على أقل تقدير لم يكن الأمر هكذا عند الإنكليز. أما في سنغافورة، فقد كان بناء الدولة سابقًا لبناء الأمة بوضوح؛ فبعد انفصال سنغافورة عن ماليزيا في عام 1965، كانت سنغافورة بلا هوية وطنية، وبلا تصور أولي عن مفهوم ما للأمة التي ستغدو مستقبلًا “الأمة السنغافورية”. كان السنغافوريون أمام مهمة بناء أمة على أساس من بنية تحتية هشة، اقتصاديًا واجتماعيًا وسياسيًا، وفقيرة على المستوى الثقافي والتاريخي، علاوة على افتقادهم آنذاك إلى المخيال الجمعي أو الأساطير الجامعة.
سورية تشبه سنغافورة في هذا الجانب؛ فقد وُلدت سورية بطريقة مصطنعة في عام 1920، أي أن الدولة السورية وُلدت قبل الأمة السورية، وفي سياق محاولات سورية الخطو نحو الأمام جاء الانتداب الفرنسي ليقطع التجربة، لتعاود سورية المحاولة من جديد بعد الاستقلال في عام 1946، ولتُقطع تجربتها مرة أخرى بانقلاب البعث، ولتبقى سورية بلا ملمح لتشكل أمة سورية أو هوية وطنية سورية. نجحت سنغافورة وفشلت سورية.
في سنغافورة، كان للنخبة دور رئيس في بناء الأمة السنغافورية على الرغم مما تخلل عملية البناء من توتر بين العناصر الإثنية/ العرقية والعناصر المدنية للهوية السنغافورية الجديدة؛ التركيبة الإثنية في سنغافورة مؤلفة من أكثرية صينية وأقليات هندية ومالاوية. يقول جورج يو، وزير الشؤون الخارجية في سنغافورة، في أكتوبر 2005: “هل نحن صينيون؟ نعم، ثلاثة أرباع السنغافوريين صينيون. ولكننا صينيون بخصائص سنغافورية. نحن متعلمون على الطريقة الغربية، ولكن بخصائص سنغافورية. نحن هنود بخصائص سنغافورية. نحن جنوب شرق آسيويين بخصائص سنغافورية”.
في أوروبا أدت النخب دورًا مهمًا في بلورة الوطنية/القومية، وضمت طيفًا واسعًا من المثقفين والأدباء والموسيقيين، وغيرهم. في ألمانيا مثلًا كان للفلاسفة دور مهم في صناعة الروح الألمانية، مثل فيخته وشيلنغ، وفي الموسيقا فاغنر، وفي الشعر غوته، فقد شكلوا حالة من الافتتان على المستوى الوطني، على الرغم من أن بعضهم مارس دورًا أكثر تأثيرًا بعد موته. فمهمة النخبة هي إعطاء نكهة خاصة للهوية الوطنية، وإيضاح الاتجاه العام، وتحفيز الإلهام، وتعزيز التجمع والالتقاء، وتفعيل التقاط القواسم المشتركة، وصناعة الروح العامة، وهي تؤدي دورًا سياسيًا بصورة غير مباشرة، من خلال احتمال تمثل أفكارها ورؤاها، ليس على المستوى العمومي فحسب، بل أيضًا في أحياز الخطاب السياسي السائد المختلفة.
تُعدّ الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني والنقابات من الهياكل والعمليات التي تساهم في بناء الأمة والهوية الوطنية، لأنها تعيد تشكيل تجمعات الأفراد على أسس وروابط جديدة غير تلك التي ولدوا حاملين لها. وبالطبع تُستثنى من هذا الدور الأحزاب والتجمعات التي تُبنى على أساس طائفي أو إثني، كونها تحافظ على البنية التقليدية الموروثة التي تُعيق إنتاج الأمة الجديدة والهوية الوطنية الجديدة، إلا في حال أوجدت صيغة خلّاقة تعطي فيها الأولوية للانتماء الوطني، ما يجعلها تعيد النظر في موروثاتها بعين الانتماء إلى أمة جديدة. لذلك، في مستوى ما، لا بدّ من التمييز بين النخب السياسية والنخب الثقافية؛ فالنخب السياسية غالبًا ما تندرج في اليومي والمباشر، وتكون أقرب إلى الشعبوية، وربما تندرج أو تندمج في سياق التقسيمات الأولية والغرائزية السائدة في المجتمع، بينما تسعى النخب الثقافية لتجاوز التقسيمات هذه لمصلحة التقاط العام والمشترك وتعزيزه.
يتحسّس بعضنا من كلمة نخبة، ربما بسبب ما تختزنه الكلمة ضمنيًا من تعالٍ، أو بسبب الحساسية الفائقة تجاه منطق التعلم والإرشاد، وربما بسبب ما تعرض له هذا المفهوم مع صعود الديمقراطية بوصفها الفكرة المركزية للشرعية السياسية؛ إذ كان على النخبوية أن تلبس لبوس التواضع، غير أن هذا الأخير لا يعني اندراجها في سياق شعبوي غرائزي، مهادن للثقافة السائدة والمزاج العام. وربما يُنظر إلى النخبوية أيضًا بوصفها من مخلفات عصور مضت، لمصلحة نمو نخب رقمية واقتصادية، مع أن هذه الأخيرة تبني شركة ولا تبني شراكة، ومن ثمّ لا تنتج وطنًا وأمة.
بعيدًا من المسارات السياسية والتسوية الجارية، لا يمكن لسورية أن تولد ولادة جديدة من دون تشكل فضاء عام، عمومي، وطني، وفي المركز من هذا الفضاء يأتي دور النخبة التي يفترض بها ألَّا تندرج في أي سياق غير السياق الوطني. وهذا الدور لا يخضع، من حيث المبدأ، للتحقيب الزمني، كأن يظل مرهونًا ببناء الدولة السورية أولًا، لكن تختلف درجته وآلياته في كل لحظة وكل وضع، ما يعني أن للنخب الثقافية دورًا مهمًا ومركزيًا في بناء الأمة السورية، قبل، وفي أثناء، وبعد بناء الدولة، وإلى أبد الآبدين، بحكم أن عملية بناء الأمة سيرورة ذات نهاية مفتوحة، لا تنغلق ولا تنتهي أبدًا.